Advertise here

القرية الكورونية

12 أيار 2020 12:51:00 - آخر تحديث: 05 شباط 2021 19:49:56

القرية عبارة عن مستوطنة، أو تجمّع بشري، أكبر من كفر وأصغر من بلدة، ويبلغ عدد سكّانها من بضعة مئات إلى بضعة آلاف، تتألّف إجمالاً من مساكن قريبة إلى حدٍ ما من بعضها البعض. أمّن التقدّم التكنولوجي عملية تواصلٍ سهلة وسريعة ربطت بين سكّان العالم، وهو ما دفع بالفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان أن يطلق على العالم إسم "القرية الكونية"، وذلك في ستينات القرن الماضي. فلم تعد القرية عبارة عن مجموعة بيوت قريبة بالمفهوم الجغرافي الضيّق، وأصبح العالم كلّه بمثابة قرية مترابطة الأطراف من خلال شبكة الإنترنت. وارتبط مفهوم القرية الكونية بمفهوم العولمة، وترافق ذلك المفهوم مع مصطلح النظام العالمي الجديد الذي بشّر به جورج بوش الأب عام 1990، والذي كرّس سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على العالم بعد انهيار الإتحاد السوفيتي وتدحرج المنظومة الشيوعية. 

نتج عن الثورة التكنولوجية انفتاحاً عالمياّ على مجموعةٍ كبيرةٍ من الصُعُد، وانتشرت السلع التي تنتجها الدول بشكل واسع بفضل التبادل التجاري الحرّ، وإلغاء الرسوم الجمركية بين العديد من الدول والتجمّعات الدولية، كما قامت الشركات العالمية الكبيرة بإنشاء فروع لها حول العالم، وانتشرت شبكات المطاعم لا سيما الأميركية منها في مختلف أصقاع الأرض، وازدهرت السياحة العالمية بشكل كبير مع سهولة الانتقال التي وفّرتها أساطيل الطائرات والقطارات والسفن العملاقة، وإلغاء الحدود بين العديد من الدول لا سيّما الأوروبية منها، وانتشرت السياحة الإستشفائية. كما انتقلَ الطلاب بين الدول، حيث أصبحت الجامعات تفاخر بعدد جنسيات طلابها. وانفتحت أسواق العمل لليد العاملة الأجنبية، وشهدت الدول، خاصة الغربية منها، موجات من الهجرة بسبب تأمين فرص عمل أفضل للمهاجرين.

أمّا على الصعيد السياسي، فقد ترافق مفهومّي القرية الكونية والعلمنة، مع مفهوم القطب الواحد الذي يسيطر على العالم، هذا المفهوم الذي ساد قبل الميلاد مع الدولة الرومانية، ولم يشهده العالم مجدداً إلّا مع صعود نجم الولايات المتحدة الأميركية وسيطرتها على العالم بعد تفكك وانهيار الإتحاد السوفياتي. 

كل ذلك المشهد المتطوّر المنفتِح للقرية الكونية، والذي كان باكورة الثورة التكنولوجية، تغيّر في لحظةٍ من زمن، في بوتقة وقت تجلّت وكأنها ضربٌ من السحر. وتحوّلت القرية الكونية في برهة زمنيةٍ قصيرة إلى قرية كورونية، فانقلبت فيها الحياة الإنسانية رأساً على عقب، وانهارَ معها النظام العالمي الجديد، وتحطمت صورة الحضارة. وتحوّلت حريّة التبادل التجاري وانتقال السلع إلى قرصنةٍ تمارسها بعض الدول من خلال وضع اليد على المعدّات الطبّية التي لا تملكها، ومن خلال منع البعض الآخر تصدير المنتجات الغذائية، وأدوات التنظيف. وتحوّل مفهوم التسوّق الراقي في المتاجر الاستهلاكية الكبيرة (السوبر ماركت) إلى تسابق المستهلكين على بعض السلع وصل إلى درجة التدافع والضرب وأحياناً القتل لغرض الحصول على سلعة تافهةٍ كورق المرحاض على سبيل المثال.

أمّا الحدود المفتوحة بين الدول فقد أقفلت بالكامل، وبقوة السلاح، حتى أن بعض القرى أقفلت الطرقات التي تصلها بالقرى المجاورة، وتعطّلت حركة الطيران، وتوقّفت السفن السياحية العملاقة عن شق سبر المحيطات والبحار، وعادت القطارات إلى قواعدها خالية، ومُنع الناس من التجوّل في الكثير من الدول، حتى وصل الأمر إلى منع الناس من الخروج من منازلهم لأسابيع متواصلة. وعانى الطلاب، والعمّال، وأرباب العمل المقيمين في غير دولهم الأمرّين لمغادرة الدول المضيفة والعودة إلى بلدانهم في رحلات يملؤها الرعب.
كما تحوّلت بعض البلدان التي كانت مقصداً للسياحة الإستشفائية، إلى بلدانٍ منهارة على الصعيد الإستشفائي، مع عدم قدرتها على استيعاب الحالات المرضيّة لمواطنيها، ما دفعها في بعض الأحيان إلى إسعاف صغار السن وترك المسنّين لقدرهم، وهو ما رفع نسبة الوفيات فيها بشكل مخيف، كإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا. أضِف إلى الاتّهامات التي وُجّهت إلى الحكومات الغربية بصورة خاصة باتّباع نظرية مناعة القطيع المهلِكة في ضوء عدم توافر اللقاح، بل اتّهم بعضها بعدم حماية دور العجزة، بغرض التخلّص من رواتبهم التقاعدية، ونفقاتهم الطبّية.

وتشكَّل الخوف من الجوع بسرعةٍ قياسية، والذي تُرجم بهجمةٍ بشريّة غير مسبوقة لشراء المواد الغذائية بغرض تخزينها، في الوقت الذي خسر فيه عشرات الملايين حول العالم وظائفهم، ودخل فيه الملايين دائرة الجوع.

إن هذا الواقع الأليم كان محور كلامٍ للمعلّم الشهيد كمال جنبلاط، وهو الذي عرف أن النظام المبني على الأطماع، وقمع الشعوب، وسرقة خيراتها، وتكديس ثروات الأغنياء على حساب تعاسة الفقراء، سينهار عند المنعطف الأول، عندما قال: "أمامنا عصرٌ للجوع مقبلٌ يفتح شدقيه ليلتهمنا، فماذا كان من العلم والصناعة والتقدّم في كل ذلك؟ إنها تبدو أحيانا وكأنها أصنام تعبّدناها، وأبدلنا بها آلهتنا القديمة، فيجب تقييمها من جديد في ضوء المعرفة الحقيقية وحكمة الأجيال. وستضيق الأرض في القريب بأهلها، كما بدأت البشرية تتعثّر بسيرها وانطلاقها بازدياد نسبة الضعفاء والمرضى جسدياً وعقلياً وخلقياً بين أبنائها".

فعلت كورونا فعلها، وكشفت زيف الأنظمة التي تدّعي الديمقراطية وحرّية الإنسان، وأظهرت بشكل جليٍ هشاشة الأنظمة الرأسمالية، وحطّمت الإعتقاد السائد بارتفاع نسبة الوعي الإجتماعي لدى سكان الدول المتقدمة. أمّا الطبيعة فكانت المستفيد الأكبر من تفشي هذا الوباء المخيف، حيث استعادت البيئة حيّويتها، وعادت الشمس تشرق من جديد فوق أكبر المدن والعواصم بعد أن كانت سماؤها دخاناً، وعاد نقاء الهواء يلاطف وجه الربيع، وعادت الأرض تتباهى بثوبها الأخضر مع عودة الزراعة المحليّة لتجتاح العالم.

نعم تحوّلت القرية الكونية إلى قريةٍ كورونية، وحصدَ هذا التحوّل وسيحصد، مئات الآلاف من الأرواح البريئة، والأمل معلّقٌ على قرب إيجاد الدواء، وعلى ضرورة الإلتزام بالتباعد الإجتماعي، والبقاء في المنازل قدر الإمكان لحين توافر الدواء. لكن في نهاية المطاف سينتهي عصر الكورونا، وعلينا منذ الآن البحث عن نظامٍ عالمي جديد، وأنظمةٍ سياسية واقتصادية جديدة، لأجل تأمين ديمقراطية حقيقية، وحريّة فعلية، وعدالة اجتماعية تسود العالم. 

*هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".