Advertise here

الحال الاقتصادي اللبناني مع تعدّد الأوبئة

25 نيسان 2020 17:10:02

أشار تقريرٌ لصندوق النقد الدولي إلى أنه من المتوقع أن جائحة الكورونا ستغيّر من الأنظمة الاقتصادية العالمية في المستقبل لتقلب أوضاع دول العالم. وبحسب تقديرات الصندوق فالخسائر المتراكمة للركود الاقتصادي من جرّاء جائحة الكورونا تقدّر بنحو تسعة تريليونات دولار في عامي 2020 و 2021 وهو، بحسب تقريره، أسوأ ركود اقتصادي منذ حقبة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي.

وفي سياقٍ آخر، وعلى صعيد لبنان، فقد أصبح الاقتصاد المحلي مع أزمة فيروس الكورونا أمام تحدٍ حقيقي، في بلدٍ يعاني أسوأ أزمة اقتصادية منذ خروجه من الحرب الأهلية في أواخر القرن المنصرم.

ففي ظل استمرار التوقّف عن العمل في العديد من قطاعات الأعمال، وعلى امتداد المناطق اللبنانية، وضمن الإجراءات الوقائية للحدّ من توسّع انتشار الوباء، ومع ازدياد الحال صعوبةً منذ انطلاقة انتفاضة أكتوبر العام الفائت، فقد اضطّر العديد من مؤسّسات الأعمال الخاصة على الإقفال لاحتواء أقل خسائرها الممكنة، بغياب خطة حكومية استباقية تنقذ ما وجب إنقاذه، وهكذا يبقى حال الاقتصاد في تدهورٍ مستمر.

وفي قراءةٍ هادئةٍ للحال الاقتصادي الداخلي مع حلول الفيروس الكوروني، أن توقفت العديد من المصانع والمعامل عن العمل، وتوقفت معها بالتالي خطوط الإنتاج الوطنية، ما نتج عنه توقيف جيشٍ من العمال الذين يواجهون تلويحات البطالة، وضيق العيش... وترافق كل ذلك مع عجز الصناعيين عن تأمين الاعتمادات المالية لزوم التزوّد بالمواد الأولية على إثر أزمة فقدان الدولار، وارتفاع سعر صرفه ليتخطى عتبات المعقول، ولِيَصِل إلى نحو 3600 ل.ل. كسعرٍ رسمي، وكما حدّدته مديرية العمليات النقدية لدى مصرف لبنان للتحاويل النقدية الإلكترونية الواردة من خارج لبنان، وإلى ما يزيد عن 4000 ل.ل. كسعرٍ موازٍ تتحكّم به بورجوازية الصيرفة. هذا إلى جانب القيود التي فرضتها السياسات المصرفية على التحويلات الدولارية، والتي فاقمت سوء الأمور مما أوصلت البلاد إلى مرحلة الانكماش الاقتصادي، ودخولها مرحلة الركود التام، وذلك بعد دخول البلاد حالة طوارىء صحية، والإعلان عن التعبئة العامة، لتمكين السيطرة على الانتشار الوبائي من دون خطةٍ حكومية ارتدادية تمكّن المحجورين من توفير البديل فيما لو طالت مدة الحجر.

فالأزمة في لبنان أضحت أزمات: الكورونا من جهة أولى، والوضع الاقتصادي السيّء من جهة ثانية، وانتفاضة مصحوبة بانتفاضات ارتدادية مشرذمة الأهداف والمعايير من جهة ثالثة، وحكومة عاجزة عن وضع علاجاتٍ طارئة، وغارقةٍ في تخبّطٍ داخلي غير معلن من جهة رابعة.

فما بعد مرحلة الكورونا لن يكن الحال بأحسن. ذلك أنه من المتوقع أن يشهد لبنان تحولاتٍ جذرية اجتماعية واقتصادية على السواء.

اجتماعياً، في تغيّر عادات وتقاليد اللبنانيين التي نشهد فصولها من تعميمٍ دخيلٍ لثقافة التباعد الاجتماعي.

واقتصادياً، حيث ستتجمّع الأموال بأيدي قلّة من التجار ناتجٍ عن ازدياد الاحتكارات للسّلع الضرورية، وبالتالي التحكّم بأسعارها، مما سيزيد من حجم التدفقات النقدية لدى هؤلاء من جهة، وارتفاعٍ في مستوى التضخم من جهة أخرى. هذا إلى جانب ما أسهمت به السياسة الارتجالية للقطاع المصرفي، والذي أفقد جرّائها ما تبقى لدى المودعين من مدخرات مستقبلية.

كما وكشفت التجربة الكورونية عن نقاط ضعفٍ منهجية في العديد من أنظمة القطاعات الوطنية، كالصحة، والتعليم، والنقل وغيرها، إذ لم تستطع الحكومة تداركها لتوفير الحلول العلاجية. فالنظام الاقتصادي اللبناني، وكونه اقتصاداً ليبرالياً حراً، يفتقر إلى خطة طوارىء احتياطية مسبقة تحاكي الأزمات التي عوّدتنا عليها الرأسمالية منذ نشأتها ولتاريخه، وذلك عكس الأنظمة الاشتراكية التي تخلو، وبحسب شواهد تاريخها، من تعاقب الأزمات كنظامٍ اقتصادي.

كذلك، فقد توقّع صندوق النقد الدولي في تقريرٍ له انكماش الناتج المحلي الإجمالي للبنان بنسبة 12% في 2020 وسط أزمة الكورونا. وهذا ما قد يضع لبنان أمام شكلٍ من أشكال العدوان الاقتصادي، والذي يؤدي إلى ازدياد "حكم الفوضى"، والذي هو التعبير الأمثل لتوصيف النظام الاقتصادي الرأسمالي، وما يرافقه من سياساتٍ لإرساء سيطرة الإقطاع المالي والمصرفي المحكوم من قِبل حفنةٍ من الرأسماليين المتسترين بجلباب الديمقراطية البرجوازية، والتي تعمل على هدم كافة أساليب الأمن الاقتصادي الوقائي، من فساد وامتيازات احتكارية، ونهبٍ منظّم لثروات البلد، والتي لا تنتج إلا سياسة الفوضى، كما أشرنا.

فالمشاهِد الحصيف يشهد على أن الانتفاضة التي بدأت بأهدافٍ جامعةٍ وضع فيها اللبنانيون آمالهم في قلبِ معادلات الحال إلى الأحسن، قد تحولت عنها خلال الأزمة الكورونية، وأيضاً بعد "ترأسملها" لتضحي توجّهاتها منصبّة على قياس جهات سياسية محدّدة، فاتّخذت، وكواحدٍ من الأمثلة، من أزمة ارتفاع سعر الدولار ذريعةً للمطالبة بإسقاط حاكمية مصرف لبنان، ونقلها من يدٍ إلى أخرى لتحقق غاياتٍ معينة. وهذا ربما يؤسّس إلى بروز مرحلةٍ جديدةٍ لنظامٍ اقتصادي شمولي بديل لا ينسجم مع أيديولوجية شريحة واسعة من المجتمع اللبناني، فتعود الدوائر إلى نقطة الصفر، ليدفع الاقتصاد ثمنها مجدَداً.

فبعد الفشل الذريع الذي منيت به الرأسمالية بتشوهاتها المتعدّدة، هل ستصدق توقّعات تقرير صندوق النقد من قلبٍ للأنظمة الاقتصادية العالمية؟

وما الثمن الذي سيدفعه لبنان جرّاء ذلك، وعلى أي نظامٍ اقتصادي سَيرسو؟؟

 

*هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".