Advertise here

ماذا بعد الكورونا؟

18 آذار 2020 08:05:00 - آخر تحديث: 18 آذار 2020 10:19:38

أرى في انتشار فيروس كورونا نقطةَ تحوّلٍ في العالم وفي وطننا الغالي لبنان. سنبقى في البيت. لن نصافح أحدًا. لن نذهب لزيارة أقرباء. لن نعود مريضًا. لن نحتضن طفلنا الصّغير، ولن نقبّله. لكن كلّ ذلك لكي نستمرّ ونفهم هذه الأمور ما بعد الكورونا. 

عادات الضّيافة اللّبنانيّة، وتقاليد البيت اللّبنانيّ لن ترحل يومًا. لن يصبح السّلام خطأً فادحًا، ولا اللّقاء جريمة، ولا قرع الباب مصيبة، ولا مخالطة النّاس كارثة. بل سنوقف كلّ ذلك الآن لكي نستمرّ ونفعله ما بعد الكورونا.

هذا الفيروس أطاح باجتماعاتنا ولقاءاتنا. ها قد أصبح الإنسانُ، في زمنِ العزلة، يجلس أمام شاشةٍ صغيرة تشدّ حواسه، وتستحوذ على قواه، ويُجري معاملاته عبر الأثير. يخاطب أهله، ويتحدّث إلى أصدقائه عبر الأثير. صحيح الأمر مقيت. لكنّنا نفعله الآن لكي نستمرّ ما بعد الكورونا.

ستبقى لغة العيون الّتي تغنّى بها أحمد شوقي ولن يزول بريقها. "وتعطّلت لغة الكلام وخاطبت عينيّ، في لغة الهوى، عيناك".

أما اللّغة الجميلة الّتي أعطتنا أمين الرّيحاني، والّتي تغنّى بها طلال سلمان، فقد زالت متعتها. وملاقاة القلم للورقة، وسماع صوت المعلّم حين يشرح الدرسَ، ورؤية الحروف تتنقّل بين شفتيه كتنقّل طائرٍ على غصنٍ طري، ومعالم وجههِ الضّاحك، الغاضب، الفَرِح، المطمئنّ، القلِق، تحوّلت إلى وجوهٍ إلكترونيّة. تلك الابتسامة المحفّزة للطّالب الّتي تبثّ فيه الحيوية والنّشاط لمتابعة تحصيله العلميّ بأسنانٍ برّاقة، وتعابير وجهٍ هانئٍ تحوّلت إلى هههههههه. 

مواساة النّاس وتعزيتهم في أوجاعهم وأتراحهم أصبحت تُنجَز عبر "الواتس- أب"، و"الفيسبوك"، و"الإنستاغرام". والبطل الجريء يساهم شخصيًّا، ويواسي أهل الفقيد مشالحةً. لكنّنا سنفعل ذلك لكي نستمرّ ما بعد الكورونا.

أمّا عيادة المريض في المستشفى، فهنا حدّث بلا حرج. يتقطّع قلبك على من تحبّ، على مريضك الغالي، وقد يكون والدك أو والدتك، ابنك أو ابنتك، حبيبك أو قريبك. تراه عبر الأثير، ولا يمكنك أن تلمس يده، وما تحمله اليد من عطفٍ وحنان. تزوره عبر شاشتك الصّغيرة لأنّ فيروس كورونا يترصّدك ليفعل فعله. كم حظّه عاثرٌ مَن يقع ضحيّة هذا الوباء اللّعين الّذي يُسقط البشر كأوراق الشّجر في فصل الخريف! وبقدر ما نلتزم بهذا المشهد القاسي الآن بقدر ما نوفر على أنفسنا قساوة لاحقا.

لكن ومن ناحيةٍ ثانية، في فترة الكورونا وما قبل الكورونا، كانت التّكنولوجيا تزحفُ نحو بيوتنا، تُلقي بحملها بين أيدينا، تحمّل كلّ شخصٍ منّا هاتفًا ذكيًّا، أو "آيبادًا"، ما جعلنا مأسورين لهواتفنا. وكم خلّفتْ من مشاكل نفسيّةٍ، وصحيّةٍ، وعائليّةٍ. كم سمعنا بحوادث سير، وتفكيك عرى أسر، وطلاق، واندثار قيَم، وتغيُّر عادات وتقاليد. 

أمّا الأمر الملِحُّ واللّافت، فهو تفكير الوزارات، والمؤسّسات، والدّوائر، والشّركات، في العمل عن بُعد، أي عبر الأثير "online". فكم من موظّفين يُصرَفون ويصبحون خارج اللّعبة، ويغدون ضحايا تكنولوجيا ساحقة لِمَن لا يواكبها. عندئذٍ تستشري البطالة المخيفة. فيتعلّم الطّلّاب عن بُعد، ويشتري الزّبون أغراضه وحاجياته عن بُعد، فنخسر المتعة في التّعلّم والتّعليم. ونخسر المتعة في التّسوّق، وتنتحر اللّغات بجزالتها، وجمالها، ومتعة عطائها وتلقِّيها، ونستبدلها بأرقامٍ وحروفٍ ورموزٍ لا تمُتُّ إلى اللّغاتِ بصلة، كما تتجسّد العواطف بالوجوه المختلفة الإلكترونيّة الفاقدة الشّعور والعواطف.

هل ستقلّص التّكنولوجيا اللّهفة بين الأهل والأصدقاء، وتكاد تشبِع الأبعاد الحقيقيّة الشّوق؟ وهل سيتحوّل الإنسان إلى روبوت يعمل وفق برمجة التّكنولوجيا؟ وماذا بعد؟!

الآراء الواردة في هذه الصفحة لا تعبّر بالضرورة عن رأي جريدة الأنباء التي لا تتحمل مسؤولية ما تتضمنه.