Advertise here

وحدة الغرب في الـG7 والمزيد من تبريد الصراعات الدولية

31 آب 2019 10:59:00 - آخر تحديث: 10 أيلول 2020 16:07:38

تطرقت الدول الأعضاء خلال اجتماع الـ G7 في "بياريتس" الفرنسية إلى محاولة إيجاد صياغة جديدة لعلاقات الغرب مع إيران وروسيا، وإلى مساعدة رئيس الوزراء البريطاني في تنظيم الخروج من الاتحاد الأوروبي. وأعاد التآلف بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقادة الدول الصناعية الكبرى لـ"الغرب" مفهومه التقليدي في الصراع الدائر حول العالم. إذ بدا المشهد العام قبل القمة متأرجحاً نتيجة لانفعالات ترامب وحروبه التجارية وانعكاس ذلك على الوحدة المصلحية للدول الغربية بشكل عام.

هذه المرة، لم يكن ترامب نجماً وحيداً أو مميزاً، ولم يستبق قدومه بمجموعة اتهامات أو مطالب تعجيزية، كما جرت العادة. الحاجة إلى عقلانية أوروبا كانت بادية عليه، لذلك نافسه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على النجومية وأثّر على التوجه السياسي العام للقمة، مستفيداً من جملة عوامل أوروبية ساعدته على الإمساك بزمام المبادرة في عدد من القضايا الرئيسة. وساعد اللقاء الثنائي الذي استبق القمة بين ترامب وماكرون في رسم الخلاصات التي توصلت إليها.

اللحظة التي انعقدت فيها القمة برئاسة فرنسا كانت مُعبّرة: "بريكسيت" في مأزق، والتوجهات الشعبوية في أوروبا مأزومة. أما فوضوية ترامب، التي فرضت وتيرة انفعالية على السياسات الدولية، فليست النموذج المطلوب لمواجهة المخاطر الصاعدة أمام الغرب، وباتت أوروبا تتلّمسها وتحتاج إلى معالجتها بدءاً من المشاكل الداخلية وصولاً إلى الصين وإيران وروسيا.

تكشف التحولات السريعة والأزمات التي تنتقل من مكان إلى آخر تناقضاً عميقاً بين التوجهات القومية للشعوب والقيادات من جهة ونظام العولمة، وحجم التداخل الذي يلغي الخصوصيات، من جهة ثانية. فدخول الصين في صلب النظام الدولي، كمنظومة مستقلة هذه المرّة يطرح على الغرب تحديات جديدة، وذلك بخلاف وضعيتها أيام الحرب الباردة. إذ نجحت بكين في التوغل إلى العمق الأميركي كشريك مُلزم في الاقتصاد القومي. لدرجة أن ذهب ترامب إلى حد اتهامها بـ"اغتصاب الولايات المتحدة" خلال حملته الانتخابية. أما بالنسبة إلى أوروبا وبقية العالم فقد كشفت عن مشروعها الاستراتيجي المتمثل بـ"طريق الحرير" الذي يُعَدّ إنجازه، في حسابات الأمم، تمدداً إمبراطورياً يماثل بدايات الاستعمار الإنكليزي. ومع التوجه العام للصين نحو الغرب تصبح أوروبا على تماس مع الديموغرافيا الصينية خلال العقود المقبلة.

الخوف من الصين، وسعيها لإنجاز طريق الحرير، إنما يُعيد الأهمية والتركيز إلى منطقة الشرق الأوسط، حيث مصادر الطاقة ونقطة الوصل والسوق الواقعة بين المقلبين، إضافة إلى أنه يُمركز الجزء الأكبر من الصراع الدولي فيه. وعلى رغم أن الصين تمثل ثاني أكبر اقتصاد في العالم فهي لا تزال خارج نادي الدول الصناعية الكبرى في الـ G7. الغرب لا يزال يقسم العالم بعقله إلى شمال وجنوب. وأوروبا، التي أصبحت مُلزمة بالمفاضلة بين المخاطر التي تمثلها كل من الصين وروسيا، لم تعد بعيدة من استدراك ذلك وفقاً لمقاييس المصلحة بعيدة الأمد. فحيث يُثقلها الاعتماد على الغاز الروسي وتداعياته السياسية إلا أن روسيا تبقى أقرب، ونواياها مكشوفة وأهدافها التقليدية معروفة تماماً، في حين أنها تتمتع باقتصاد ريعي لا يُخيف الغرب وهو غير مؤهّل لاختراق القوميات الأخرى. كل هذه الإحاطة يُعززها ماكرون حين يعتبر أن روسيا "أوروبيّة وبعمق" ويدفع نحو تقارب استراتيجي معها يكفل إبعادها عن الصين.

وقد لا يكون ترامب بعيداً من الحاجة لاحتواء روسيا وفقاً للمقاربة وللحوارات التي جرت في G7، إذ لا غنى عن موسكو ولا حل لكثير من الأزمات من دونها. فالضياع الاستراتيجي حالياً يعني المزيد من التوغل الصيني في الوقت الضائع، وقد تلعب روسيا على ذلك وتعزز مكاسبها في الشرق الأوسط، وهذا ما يجري على أرض الواقع.

لكن السباق نحو التسلح، الجاري فعلياً، ليس أمراً بالإمكان القفز فوقه، خاصة بعد انسحاب الولايات من اتفاقية الحد من الصواريخ المتوسطة المدى التي وقعها الرئيسان رونالد ريغان و ميخائيل غورباتشوف في عام 1987. عجز القيادة الروسية عن مجاراة التقدم العسكري الأميركي، وسيطرة المحافظين على الإدارة هناك، يرمي بالنخبة الروسية نحو البديل القومي في ظل غياب اقتصاد وطني قادر على مواجهة تحديات العصر. ومن دون وقف العقوبات الغربية وبناء اقتصاد قوي من الصعب الدخول في سباق تسلح متكافئ. لكن ذلك لا يثني عن بدائل تتمثل في الرجوع إلى خزائن السوفيات ومشاريعها التي قلّما رجّحت الاقتصاد على الإيديولوجيا.

وهناك جملة من الأحداث والوقائع تظهر أن روسيا، ولو ببعض النكران، تجاوزت مرحلة التردّد في الدخول إلى سباق التسلح، وهي تعود إلى فلسفة الردع النووي بقوة. وقد نفضت الغبار عن مشاريع لأنظمة صاروخية تعود أصولها إلى الحقبة السوفياتية وتتعلّق بحرب النجوم، ووظفت لها استثمارات هائلة. وقد سبق للرئيس بوتين أن تحدث عن صاروخ فائق القوة في خطاب له أمام البرلمان الروسي في مارس (آذار) 2018. تجربة هذا النظام مؤخراً تسببت بالانفجار النووي في مدينة سيفيرودفينسك.

ومن جهتها، اختبرت الولايات المتحدة نظاماً صاروخياً على منصة إطلاق أرضية، الأمر الذي كان محظوراً بموجب المعاهدة. وهذا النوع من الصواريخ يمكن نشره في آسيا وأوروبا، الأمر الذي يُضيف للروس مشكلة أصعب من الدرع الصاروخية. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طلب من جيشه إيجاد الرد المناسب مُستدركاً بأن موسكو "لن تسمح بجرها إلى سباق تسلح جديد من شأنه الإضرار باقتصادها".

لا شك أن مهمة أوروبا لن تكون سهلة وهي تدفع إلى بناء شراكات إيجابية بين كل تلك المتناقضات في الساحة الدولية، أو حين تعمل على تخفيف التوتر مع إيران في الشرق الأوسط، وتحاول "تبريد" الحرب الباردة القائمة فعلياً مع روسيا، وتفادي سباق للتسلّح يُعيد الترسانة النووية إلى عواصم أوروبا ومدنها. لكن المهمة الصعبة تلك تفرضها الحاجة الكبيرة إلى هذه الفسحة من العقلانية والواقعية في أوروبا، والتي سَتُوكل إليها مهمة الحد من التسابق المُكلف والصراع المجنون، بين عولمة الولايات المتحدة التي ترتد، وقوميات الشرق التي تصعد.