Advertise here

روسيا وعمى الألوان

11 أيار 2019 18:54:00 - آخر تحديث: 23 أيلول 2020 14:45:14

لم تتعامل النخبة الروسية الوطنية والقومية مع سقوط الاتحاد السوفييتي من منطلق عقائدي فقط باعتباره سقوطا للمنظومة الشيوعية، بل اعتبرته خسارة روسية فادحة للمصالح الجيوسياسية للدولة الروسية التي تبدأ من جمهوريات الاتحاد السوفييتي وصولا إلى دول المنظومة الاشتراكية مرورا بأنظمة الحرب الباردة التي شكلت جزءا مهما من الحضور السوفييتي ـ الروسي في مرحلة صراع القطبين خصوصا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

استطاعت هذه الأنظمة الاستبدادية الحفاظ على استقرار نظامها السياسي القائم على مركزية الدولة وحكم الفرد بوصفه القائد الأوحد للأمة، وتمكنت من الاستمرار لسنوات بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وهزيمته في الحرب الباردة، حتى ظهور ما بات يعرف في علم الاجتماع السياسي بالثروات الملونة التي أطاحت بعدد من الأنظمة، القاسم المشتركة بينها أنها كانت جزءا من المنظومة الاشتراكية أو تقع ضمن المجال الحيوي الروسي.

بدأ سقوط الأنظمة، على غرار مبدأ حجارة الدومينو، في يوغوسلافيا نهاية سنة 2000 وانتقلت بعدها إلى جورجيا سنة 2003، فأوكرانيا 2004، ثم قرقيزستان 2005، والحركة الخضراء في إيران 2009 حتى ثورة الياسمين في تونس 2011 والتي انتقلت عدواها إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا. ثم أتت الموجة الثانية، التي بدأت في أرمينيا 2018 وتبعتها الجزائر والسودان وفنزويلا في 2019، ولم تزل ارتداداتها المتقطعة والعنيفة النتائج تمثل تهديدا جيوسياسيا لروسيا باعتبار أنها سمحت بوصول أحزاب ذات ميول غربية إلى السلطة في الأماكن التي نجحت فيها بتحقيق تحول سياسي كامل، الأمر الذي استدعى تدخلا عسكريا روسيا في بعض البلدان التي تشكل خطرا مباشرا على الأمن القومي الروسي على غرار ما حدث في جورجيا التي خسرت أجزاء من أراضيها وكذلك في أوكرانيا إضافة إلى احتلال كامل لسوريا، الذي اعتبره وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو قد حقق "هدفا جيوسياسيا" بتوقيف "سلسلة ثورات ملونة في الشرق الأوسط وأفريقيا".

عوارض الرهاب الروسي المزمن من الثورات الملونة أو ثورات الربيع العربي يظهر المعلومات الواردة من مصادر عدة عن وجود مرتزقة روس يعملون إلى جانب قوات الأمن السوداني التابعة للرئيس المخلوع عمر البشير لمساعدتها على قمع التظاهرات التي دعت إلى إسقاط نظامه.

تزامن هذا الخبر مع إعلان موسكو رسميا إرسالها أكثر من 100 خبير عسكري وعتاد إلى العاصمة الفنزويلية كراكاس لدعم موقف الرئيس مادورو الذي يتعرض، بحسب الخارجية الروسية، إلى مؤامرة خارجية تديرها الولايات المتحدة تهدف إلى إسقاط نظامه الشرعي وفقا لتعريف الكرملين، الذي يعتبر فنزويلا آخر موطئ قدم له خارج امتداداته القارية وتمثل قاعدة متقدمة له هي الأقرب إلى حدود الولايات المتحدة، وهي عامل أساسي في إطار استراتيجية موسكو في استعادة دورها الدولي الذي تعتبره مفتاحا لعودة التوازن للمصالح الدولية.

هاجس حماية المصالح الجيوسياسية لم يكن المبرر الوحيد لموسكو للوقوف بعنف بوجه الثورات الملونة، وتحديدا الموجة الثانية منها والتي عرفت بثورات الربيع العربي، فالخوف من انتقال عدواها إلى داخل روسيا كان أحد أبرز المبررات التي دفعت الكرملين إلى مواجهتها، خصوصا عندما اتهمت موسكو مجلس الأمن الدولي بخداعها عندما وافقت على استخدام القوة لحماية مدينة بنغازي من عملية عقاب جماعي قد يقوم بها نظام القذافي سنة 2011، حيث فسرت الدول الكبرى القرار الأممي بأن يسمح لها بضرب قوات القذافي في كل لبيبا، ما ساعد على سقوط طرابلس بيد الثوار؛ وتصر موسكو أنها لو منعت التدخل في ليبيا لما وصلت التظاهرات إلى سوريا، ولو لم تنجح في تحقيق أهدافها في دمشق لكانت انتقلت إلى طهران ومنها إلى جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية، وباتت على أبواب موسكو. هذا التبرير جاء مباشرة على لسان الرئيس الروسي فلادمير بوتين سنة 2014 الذي اعتبر أن المجتمع الدولي يستخدم التطرف كأداة جيوسياسية لإعادة تشكيل مناطق النفوذ، وأن "على موسكو بذل كل ما في وسعها للتصدي للتطرف والحيلولة دون وصول الثورات الملونة إلى أراضينا، ويجب أن نفعل كل ما بوسعنا حتى لا يحدث شيء مماثل على الإطلاق في روسيا".

الخوف من انتقال عدوى ثورات الربيع العربي إلى داخل روسيا كان أحد أبرز المبررات التي دفعت الكرملين إلى مواجهتها
وعليه، فإن مرض عمى الألوان الذي يصيب القيادة الروسية يمكن توصيفه طبيا بأنه مرض جيني وراثي انتقل من جيل سياسي في الحكم إلى آخر، تعود على رؤية لون واحد من الألوان في الحكم، الأمر الذي أدى إلى تعثر رؤية طيف واسع من الألوان المختلفة لدى صناع القرار في الكرملين.

فأزمة روسيا مع فكرة التعددية السياسية في هذه المرحلة تعود إلى سيطرة النخب الأمنية والعسكرية على القرار، وهي تواجه معضلة عدم قدرتها على إعداد البديل الذي يؤمن استمرار السلطة بشكلها الحالي، والتي كانت متاحة سابقا عبر العائلة المالكة التي تؤمن استدامة طبيعية للسلطة، واستمر في المرحلة الشيوعية عبر العائلة الحاكمة السوفياتية في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الذي كان يختار أحد أعضائه أمينا عاما للحزب الحاكم ليتسلم مقاليد السلطة، وهذا ما لم تسطع النخب الحالية تحقيقه، وهي متوترة مستقبلا من فقدان السيطرة إذا فشلت في إنتاج البديل.