Advertise here

كمال جنبلاط بميلاده واستشهاده

06 كانون الأول 2020 11:31:52

لكل من أراد تناول السياسة اللبنانية، والدخول في تفاصيلها، صغيرةً أم كبيرة،  لا بدّ له من الخوض في نضال وسيرة الشهيد كمال جنبلاط المبكرة، من بدايتها العملية ساعة انخراطه عائلياً، وتحمّل العبء، ومن ثمّ فكرياً وعقائدياً مُدافعاً عن الفقراء، والطبقة الكادحة التي حمل لواء مطالبها الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، للحظة استشهاده.

تلك الولادة شكّلت ومضةً بتاريخ العائلة، والوطن، والعلم، والتصوّف، والآدمية من مسؤولٍ رفيع.

كما وأن حالة الاستشهاد قادتنا لمنعطفٍ قضى على مستقبل وطنٍ كنا نحلم به وبقيادته، وأمةٍ تعلو كلمة الحق فيها، والشفافية والصدق نبراسها. إذ كان (المعلّم) مثالاً لكوكبةٍ كبيرة على امتداد مساحة الوطن من مفكّريه، ومثقفيه، وكادحيه، والناس الطيّبين البسطاء.

هذا البلد في حينه كان إن لم يخرج كمال جنبلاط بمقالٍ مكتوب، أو موقفٍ منقول، أو مؤتمرٍ صحافي، فلا معنى فيه ونكهة لسياسته اليومية.

هذا البلد مصابٌ بماضيه، وحاضره، ومستقبله، بمرضٍ عضال، هو الطائفية البغيضة التي استنزفته حتى الضحالة، ودقّت إسفيناً بتاريخه، وأصبحت حالةً لا يمكن الشفاء منها، لا بل ترسّخت نفسياً وعرفياً مع أجيالٍ تمضي، وأرواح ون تُزهق، في سبيل استعادته...

يقال في عصرنا الجديد هذا إن الدولة اليهودية العنصرية قامت وانتهى المطاف، والقدس العربية عاصمة لها،  والدعم متواصل على قدم وساق، لا بل كل الأمم قاطبة ترزح تحت نير حمايتها.

أما نحن فقد سبقناها منذ زمن. إذ لا يمكن أن يرضى عاقلٌ، مهما كان، بحكمٍ مبتورٍ تديره سلطة عنصرية فاسدة، وتأخذ مقوّماته باتّجاهٍ واحد، تاركة الفضلات لبعض من يدور بفلكها بحالةٍ شبيهةٍ بالأمس، ونسخة عن الواقع الصهيوني الجاثم على قلوبنا وأمامنا يومياً.

أين كمال جنبلاط لينتشلنا من ذاك المستنقع، ويقود التظاهرات المطلبية الشعبية، ويغيثنا من حالة الهيمنة المتعددة الأشكال والألوان، ومن القبلية لينقلنا إلى الحالة الوطنية، ومن حالة العشائر إلى مفهوم الوطن؟

أين كمال جنبلاط من الأنظمة العربية التي تعمل على خنق وتكديس المفكّرين والعلماء في دهاليز السلطة، والتسلّط خدمةً لمستعمرٍ جديد قديم، مقابل استمرارها في الحكم والقبض على مفاصل الحياة؟

أين تلك العبقرية والعباقرة اللبنانيين الذين يتباهون بعلمهم والادّعاء باختلاق الحلول واجتراحها، من مئوية متهالكة مندثرة تقوم على تسويات وترقيعات ولن تستكمل... ومن حكمٍ مستزلمٍ، وطائفية ومذهبية مستشرية حتى الثمالة؟

أين كمال جنبلاط من مجالس نيابية لا تُشرّع، ولا تُحاكم، ولا تسأل، ولا تُسأل يُمدّد لها رئيساً ونواباً؟

أين كمال جنبلاط من حكوماتٍ تعاقبَ أعضاؤها وزراء، وهم نفسهم نوابٌ باسم الأمّة، يُشرّعون ما لهم به إفادة، والمجلس الشاهد عليها وشريكها؟

أين كمال جنبلاط من رؤساء وحكام ومسؤولي أحزاب استولوا على  أموال طائلة جنوها على حساب المواطن؟

أين كمال جنبلاط من دولةٍ تنازلت وتقاعست عن أبسط واجباتها بحماية مواطنيها، والمحافظة عليهم كإرثٍ وطني، وطاقةٍ لا يمكن التفريط بها، خذلتهم مراراً وتكراراً، وسرقتهم من خلال الضرائب المفروضة، والأموال الخارجية المُستدانة على اسمه، واستُكملت بما لدى المواطنين من ودائع في المصارف التي هي بدورها متآمرة عليه؟

أين كمال جنبلاط من سلطةٍ هرمية فاسدة، حتى أولئك المؤتمنون على حمايتنا الأمنية، نخروا عظام المؤسّسة الأم، والملفات تتوالى إبداعاً في أساليب اللهط؟

أين أنت يا حجر الرحى، يا أبا الفقراء،أبا الكلمة الليّنة، الصادقة، المخلصة، الوفية، الخلوقة، المجبولة بفائضٍ من الأدب والاحترام  للغير والذات؟

أين أنت من أدب الحياة الذي خطَطْتَ منذ زمنٍ طويل؟

أين أنت في كل هذا الضجيج الصارخ، العابق بالمصالح، والأنانية، والغوغائية،  بالغاز والنفط، والحروب الإلكترونية الرقمية؟

أين دول عدم الانحياز، وأين الاشتراكية الأكثر إنسانية، والتقدمية التي ناديتَ بها؟

ازددنا ضعفاً برحيلك،
وازداد الوطن نهباً، وسرقةً من المواطن حتى الرئاسة. 
وأصبح السطو، والبلطجة، والنهب، والاختلاس، شطارةً وشعاراً  مرفوعاً، والتشبيح نهجاً واضحاً، لا حياء ولا خجل... 
 والمحسوبية  والاستزلام شرقاً وغرباً نهجاً واضحاً يُجاهرُ به علناً من أعلى المنابر، تمويلاً وتنظيماً، دون أن يختلج لهم قلب، لا خجلاً ولا اختشاءً.

أين أنتَ من قضاء الكَمُّ الكبير منه فاسد ومُفسد، يتباهون بما يملكون ويقتنون، وبامتيازات يتمتعون، وبملفات تلفّق؟

أين أنت من جمهورية تعطّلت لسنين للإتيان برئيسٍ اغتصب السلطة سنيناً، فقط في سبيل حماية خلقية ما؟

أين أنت من رجال دين يدّعون كلاماً باسم من يمثّلون، وهم بأفعالهم أبواق للشيطان، واتباعه الملاعين؟

أين أنت الذي عشقتَ الإله لا المتألهين، ورفعتَ من قيمة الإنسان كجزءٍ من هذا الكون العظيم؟

أين أنت من كل شيء يدور سراً وجهارة؟

أقول، وبكل جرأة، يلزمنا دفن هذا
الوطن دون إقامة مراسم التأبين، أو حفل وداعٍ أخير، واختراع وطنٍ جديد
بدمٍ نقيٍ صافٍ لا يعرف سوى
الوطن والمواطنة سبيلاً، دون تمايز ومنة من أحدٍ على أحد...

دمتَ قائداً صالحاً، حتى وإن كنتَ تحت التراب سجيناً.

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".