في الربع ساعة الأخير من مئوية لبنان، تعرّى الفشل السياسي بأبشع وجوهه طيلة تلك الأعوام.
لم يكن الرؤساء رؤساء بلاد. كانوا شريحةً شاحنةً للزبائنية القاتلة للدولة. ولم تكن الإدارة إدارةً رشيدة، بل كانت هواجسها الاختلاس، لا الإخلاص.
لم يكن نواب الشعب، يمثّلون الشعب، وهواجس الشعب، وطموحات الشعب، ومطالب الشعب، بل كانوا يمضون في خدمة مصالحهم الخاصة على حساب الوطن والشعب.
لم تكن الحكومات المتعاقِبة تنصرف لبناء الوطن، وتسهر على تطوير الإدارات والقطاعات، بل كانت تنصرف في السر وفي العلن، لتحصد لنفسها ولأشخاصها، وتقطع وقتها، في مداهاةٍ ومداهناتذ رخيصة مكشوفة، لمصلحة هذا المحور أو ذاك، من المحاور الإقليمية أو العالمية.
كانت السياسة العامة لجميع هؤلاء بكافة مسؤولياتهم، وبكافة مراكزهم، سياسة التحابي والانتفاع في إطارٍ من النظام القرابي الذي يبيح البلاد لهم، أرضاً، وشعباً، ومنشآت.
كانت الأعوام تمضي على الساسة وفي السياسة، فتثقل البلاد بالأمراض الاجتماعية، وبالأمراض الوطنية، وبالأمراض الإدارية، وبالأمراض السياسية.
ما عرف لبنان في تاريخه صحوةً عامة تجعله يمضي بصلابة على سكة البناء والتطوير، وعلى سكة الإصلاح والتغيير.
كل عام، كانت البلاد تستفيق على إنذارٍ من الداخل، وعلى إنذارٍ من الخارج.
كانت الزلازل الداخلية تهزّ الوطن من أركانه. وكانت الزلازل الخارجية تضرب وجهه ضرباً عنيفاً، مثل بركانٍ يشتعل. ومثل تيارٍ يسحب اليابسة إلى أعماق لججه.
مئة عام من الفشل السياسي، كتبها الساسة في السياسة، ودفع ثمنها الشعب إفلاساً. هذا الإفلاس العام الذي يعيشه الشعب اللبناني اليوم، ليس لضيقٍ في ذات اليد، وليس لقلةٍ في الخزائن، ولا لجفافٍ في البلاد، ولا في الموارد. وإنما هو بسبب العبث بالمال العام. وبسبب العبث بالشأن العام. وبسبب العبث بالإدارة العامة.
ما عمل الرؤساء طوال العهود الماضية لفكرة الدولة. كانوا يعملون لفكرة الزبائنية. وما عملوا لبناء البلاد على أسسٍ من العدالة، بل على أسسٍ من النطاق النسبي. وربما توسّعوا في ذلك حتى لامسوا النطاق الطائفي، وحتى لامسوا النطاق الحزبي.
منح العالم لبنان فرصة المئة عام. ولكن لبنان خذله الساسة بسياساتهم، فكان هذا الارتداد القاتل، في جب الإفلاس العام، الذي لا يحدّه قرار.
في رأس المئوية الثانية، احتاج لبنان إلى التسوّل المالي، وإلى التسوّل العالمي. صار شعبه متسولاً. وصار التسوّل ورقة نقدية. وصار التسول ورقةً سياسية، وبات الفشل السياسي يحكمه من سدة القصر، حتى حوافي القبر.
الفشل السياسي اليوم عنوان العجز السياسي، وعنوان عجوز القصر في الهزيع الأخير من هذا العصر.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية