أعلنت إدارة الخدمات العامة الأميركية، الإثنين، بدء عملية نقل السلطة للرئيس المنتخب جو بايدن. وأكّد الرئيس دونالد ترامب، في تغريدة له أنّه وجّه ببدء "البروتوكول الأولي" في عملية الانتقال الرئاسي.
وستتولى الإدارة توفير مساحة مكتبية في واشنطن لهذا الفريق، والتنسيق مع الوكالات الفيدرالية للتخطيط لتغييراتٍ محتملة، وستسمح للفريق ببدء الاستعدادات الضرورية قبل التنصيب الرسمي، المتوقع في 20 كانون الثاني 2021، وكذلك الوصول إلى معلومات استخبارية حول التهديدات في العالم.
وكان المرشّح الفائز جو بايدن، قد بدأ بشكلٍ غير رسمي استعداداته الرئاسية، فأعلن عن نواة فريقه الانتقالي، وأجرى اتّصالات بقادة دول أجنبية، وهي عملية عادة ما تجري من خلال وزارة الخارجية.
وصول بايدن إلى البيت الأبيض، أو بقاء ترامب في المكتب البيضاوي لسببٍ ما قد يحصل، يستدعي إعادة ترتيب الأولويات، وذلك يتمّ من خلال الحوار والتفاوض بين أقسام المؤسّسة الأميركية العميقة وفريق الرئيس الجديد، على مضمون الشعارات والقضايا التي أثيرت خلال الحملة الانتخابية. فطريقة عمل الإدارة الأميركية، لا سيّما آلية اتّخاذ القرارات خلال مرحلة الانتقال، والتغيير بين إدارةٍ وأخرى، تتطلب النظر في كافة الوعود الانتخابية التي يطلقها الفائز لوضع خارطة طريق لقرارات ومراسيم جديدة. وإذا كانت هذه الوعود تتناقض مع المصلحة الاستراتيجية العليا أو المتوسطة أو المباشرة، يتم إعادة ترتيبها، وإعادة صياغة مضمونها وتعديلها بما يتناسب مع الاستراتيجيات الأميركية على المستويات كافة. لذلك، وإفساحاً (في المجال) لمصلحة الإدارة الجديدة تجري توافقات حول الأولويات، وحول مضامين تلك الوعود بما لا يؤثر سلباً على الاستراتيجية العامة مع مساحة خاصة يتصرّف بها الرئيس المنتخب لتأكيد التزامه بوعوده التي فاز على أساسها، مع العلم أن الرئيس المنتخب بنصف الأصوات عليه احترام التصويت المضاد للقضايا التي طرحها منافسه، وبالتالي فإن المصالحة بين الأميركيين لا تجري على أساس شخصي بين الخصمين، وإنما على أساس مصالحة برنامجية، بين البرنامجين المتناقضين ليصبحا برنامجاً واحداً يخدم المصالح والاستراتيجيات الأميركية.
لعل ما جرى مع الرئيس باراك أوباما خير دليل على ديمومة السياسة الأميركية، بحيث كان أوباما يردّد العديد من الوعود التي لم يتمّ اعتمادها ضمن جدول الأولويات التنفيذية، كما أن مضمون بعض الوعود تبدل عن ما كان عليه. وهذا ما حصل أيضاً مع ترامب عندما تحدّث عن انسحاب الجيوش الأميركية من مناطق الصراع في الشرق الأوسط، لكنه في المحصلة، وخلال إصداره قرار الانسحاب من سوريا، تم تنفيذه بطريقة شكليةٍ بما يتناسب والاستراتيجية العسكرية والأمنية الأميركية في المنطقة.
لقد تركز خطاب المرشّح المنتصر، جو بايدن، على موضوع كورونا ومصالحة المجتمع الأميركي، ولم يذهب بعيداً في تعديل مستوى الضرائب التي خفّضها ترامب. فإذا أعدنا صياغة هذه العبارات الثلاث التي وردت في خطابه يمكن القول إن شعار بايدن، كما شعار ترامب أميركا أولاً، وبالتالي لا فرق في الجوهر بين سياسة الطرفين.
وفي خطاب المصالحة يتّضح جيّداً أن التباينات بين البرامج الانتخابية وبين الأولويات التي أعلنها كلٌ من بايدن وترامب، ليست ذات شأن كبير في السياسات الداخلية، لكنها أكثر وضوحاً في السياسات الخارجية لناحية الشكل، ولا وجود لخلافات كبيرة في المضمون.
في الأولويات الخارجية، نجح ترامب في وضع الصين كخصمٍ داخلي مؤثر في حياة كل أميركي تجارياً واقتصادياً، حيث أصبحت المسألة الصينية قضية أساسية لدى الأميركيين، ومتفقاً عليها لناحية لجم الروح التنافسية الصينية، ومنعها الاستفادة من قوانين العولمة، ومن التكنولوجيا المتقدمة، وهذا ما يعترف به الديمقراطيون أيضاً بعد أن أصبح الميزان التجاري لمصلحة الصين طيلة الفترات السابقة. والهدف الرئيسي في هذه المعركة إعادة الميزان التجاري لمصلحة أميركا، وأن تعود الصين تحت القبضة الأميركية التي يجب أن تبقى أكثر هيمنة، وأكثر نفوذاً على المسرح العالمي. وهذه السياسة ستستمر مع جو بايدن، الذي من المتوقّع أن يعزف على اللحن الأوروبي لإعادة بناء علاقات حسنة مع أوروبا بقليلٍ من الشراكة، وقليل من الاحترام للسيادة الأوروبية والدور المستقل، بعد أن عانت أوروبا من أسلوب تعامل ترامب الفجّ معها.
وإذا استطاع بايدن جلب أوروبا إلى جانبه على المسرح الدولي، وتوظيف تلك العلاقة في مواجهة بكين وموسكو، ومواجهة الدول الإقليمية المتعاملة معهما، مستفيدة من التناقضات التي يفرضها الجو التنافسي الصيني والروسي مع واشنطن، وإذا اصطفّ الأوروبي راضياً إلى جانب واشنطن، ستكون الاستراتيجيات الأميركية القادمة أكثر صلابةً، وستكون أوروبا قادرةً على ترتيب الملفات بقوة في وجه بكين وموسكو، وأي خصمٍ تنافسي آخر يتجاوز السياسة الغربية. وهذا ينطبق على علاقة واشنطن مع دول الشرق الأوسط، وبشكلٍ دقيق مع دول الخليج العربي.
في التطورات المحتملة في الشرق الأوسط، هناك من يقول إنّ بايدن هو نسخة عن أوباما، وأنّ السياسة الخارجية الأميركية ستعود إلى ما كانت عليه حين كانت هيلاري كلينتون على رأس الدبلوماسية الاميركية، أي التحالف مع التيار السياسي الإسلامي السنّي، وممارسة الاحتواء مع التيّار السياسي الإسلامي الشيعي، لا سيّما إيران والملف النووي، دون أن يدرك هؤلاء أن ذلك كان في لحظة سابقة تحولت بعدها الأمور وتبدلت، وسالت دماء كثيرة وغزيرة في شوارع وعواصم عربية عديدة، وأصبح الصراع يخضع لقواعد وتحالفات جديدة، ولن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، ولا يمكن استنساخ تجربةٍ سياسية عابرة في لحظة لها خصائصها. فبعد أن انتقلت السودان من محورٍ إلى آخر، وتبدّلت موازين القوى في ليبيا، وأصبحت مصر والرياض وبغداد تعمل على تحسين علاقاتها وتبديل موازين القوى لصالحها، يشير المتابعون إلى أن السياسات الاستراتيجية الأميركية المباشرة والمتوسطة التي يديرها الخبراء سوف تستمر على حالها في البؤر الساخنة ومع ايران، بغضّ النظر عن مَن سيكون سيّد البيت الأبيض.
في الملف الفلسطيني، المشكلات التي نجمت عن صفقة القرن ببعدَيها البنيوي الذي يتعارض مع السياسات الأميركية العامة، والفلسطيني الذي أنتج وحدة موقفٍ داخلي مدعوم بموقف أردني وعربي رسمي، رغم التطبيع الذي جرى مع الإمارات والبحرين، حيث شجّع مزاج الديمقراطيين قيادة السلطة الفلسطينية على فتح معركة سياسية مع ترامب، وهذا التشجيع المعلن سيؤدي إلى عودة العلاقات والانفتاح، ووقف العقوبات المالية وتخفيف للحصار. لكن ذلك لن يتجاوز ما أعلنه المرشّح الفائز جو بايدن، الذي لم يتراجع عن موضوع القدس وموضوع اللّاجئين ومسألة المستوطنات، ما يعني أنه ثمة تعديلاً شكلياً ربما يسمح بعودة العلاقات الأميركية مع السلطة بدرجة من الدرجات يجبر إسرائيل معها على العودة إلى طاولة المفاوضات. هذا التعديل له بعدٌ مصلحي أميركي، فواشنطن تريد استمرار السلطة، وإسرائيل تريد أيضاً إبقاء السلطة ضعيفة وعاجزة عن إحداث أي تغيير في حالة الصراع المستمر بينهما. لقد لعبت الإدارات الديمقراطية دوراً رئيسياً ومخادعاً في المفاوضات الفلسطينيية – الإسرائيلية، ولم تكن في أي لحظة من اللحظات ذات موقف مؤيدٍ للسلام، ومعظم الإدارات الأميركية الجمهورية والديمقراطية كانت تتبنى المواقف الإسرائيلية، وتلقي اللوم على الفلسطينيين.