Advertise here

عن أي استقلالٍ نتحدث؟

22 تشرين الثاني 2020 17:08:22

ها قد جاء العيد الـ77 للاستقلال في وطني الحبيب. كم أنا فرِحٌ بما أراه في عيد الاستقلال: أفراحٌ وأعياد. احتفالات ومهرجانات وطنية. مِن هنا رجلٌ وزوجته يحتفلان مع أولادهما ويلوّحون بالأعلام اللبنانية وهم ينشدون لحن الاستقلال "كلنا للوطن"، ومِن هناك راقصو الدبكة اللبنانية وهم يرتدون ثيابهم لتقديم الفولوكلور اللبناني بأبهى صورته في قلعه جبيل. وأرى فخامة رئيس الجمهورية يجول في شوارع الوطن راكباً درّاجته الهوائية، وهو يحيّي اللبنانيين بعيدهم الوطني المجيد بعد أن بَنَتْ حكومته أسرع قطارٍ في العالم، وأستاذ مدرسةٍ جالساً يقرأ كتاباً عن بشاره الخوري على حافة شرفته المطلة على مشروعٍ ضخم، والذي أقرّته الحكومة في اجتماعٍ مدّته 5 دقائق، ونفّذته بمدة لم تتجاوز الـ 3 أيام.

ما أجمل الاستقلال في مخيّلتي، بعكس ذلك الواقع المؤلم الذي يسمّى لبنان. وطنّ جريحٌ مستقلٌ مرتهن، وما زال القرار الصائب فيه يستغرق حوالي السنة والعشر سنين ليتمّ اتّخاذه، ومن ثمّ لا ينفّذ. كل ذلك بسبب تعارضه مع مصالح بعض الدول، أو جماعةٍ سياسية.

عن أي استقلالٍ نتحدث، وما زال الفلّاح يعمل لحساب الغني بمبلغ يقارب العدم، ولا يستطيع المواطن انتقاد الدولة في ظل دولة بوليسية تكمّ الأفواه، وما زال التحقيق عاجزاً عن كشف المستور في الانفجار الذي هزّ لبنان بأسره، بسبب تغطيةٍ خفية مجهولة المصدر.

عن أيّ استقلالٍ نتحدّث؟ فالاستقلال الحقيقي هو جزءٌ لا يتجزأ من الحرية، حيث يبدي الكل رأيه في العلن، ولا يتجرّأ رئيس، أو قائدٌ أن يمسّه بضرر أو يسجنه. 

الاستقلال الحقيقي هو استقلال العقول عن الأفكار الطائفية القاتلة، والمناطقية الخانقة. هو استقلال الوطن، لا استقلال المناطق عن بعضها. ولكن يبدو أننا لم نقرأ في كتب العظماء كيف تستقل الأوطان، بل اخترنا العيش في ظل نيرون، امبراطور روما، فأحرقنا لبنان بنيران مصالحنا بعد أن انصرفنا إلى حياة العربدة والانحطاط على حساب الوطن، وفي ظلّ أزمة أخلاقية جرّدتنا من عروبتنا.

يكفي كلاماً عن الواقع. فالواقع حزينٌ مؤلم، ولنعد إلى المخيلة. ها هو نيرون ينتحر، ثم انصرف الشعب لقراءة الكتب الثقافية التي تغني الشخصية بالعروبة والوعي إلى أن ظهرت النخبة وثارت على الارتهان والاستغلال. وها أنا جالسٌ على شرفتي أقرأ كتاب ذلك الأستاذ، وأنظر إلى تلك القرية والنهر المنسجمَين مع المنزل التقليدي البسيط الذي يسكن فيه رئيس الجمهوريه اللبنانية وأراه خارجاً من منزله يسير على أقدامه ليبتاع فطوره من ذلك الجزّار في ساحة الضيعة. أمّا نظري العجوز عند نهاية مداه فيرى ذلك المعمل الخارق الذي يقوم بتدوير نفاياتنا وتحويلها لآلاف السلع والتحف الجميلة. 

ما أجمل لبنان المستقل، وما أروع ذلك التمثال في وسط بيروت، تمثال الحرية.

ولعلّ الأسلاف الكبار كفخر الدين، وأشمون، وإليسار مؤسِّسة قرطاج، قد استحوا بما وصلنا إليه من بؤسٍ وكراهية. كيف لنا أن نتغنّى بتاريخنا الفينيقي، والكنعاني، واللبناني الأصيل، ونحن نتغنّى باستقلالنا الشكلي، وقد أهدانا رعاة هذا الاستقلال؟

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".