Advertise here

دولة غائبة في وطنٍ ضائع

21 تشرين الثاني 2020 16:55:41

إعتاد اللبنانيون على الأزمات التي عصفت وما زالت تعصف في لبنان، أو ربما تأقلموا مع كل المتغيّرات والتحولات، لأنّ الحلّ والربط ليس بأيديهم، فهم في النهاية مجرد أحجار داما تنصاع لغرائزها المذهبية والطائفية، وتنجرّ لمراكز القوى الخارجية التي تدعمها في حسابات تقاطع المصالح الإقليمية والدولية. 

وكم هو مستغرب أن الأزمة الاقتصادية والمعيشية لم تستطِع توحيد رؤية الشعب اللبناني حول التغيير. وبالرغم من أن الأزمة طالت لقمة عيش المواطن من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، إلّا أنها بقيت مقيّدة داخل جدران الانتماءات المذهبية والطائفية. من هنا فإن الشعب اللبناني أصبح يعتاد التعايش مع وجعه بدل البحث عن ثورة حقيقية تطيح بنظام مترهّل وعفن.

وعندما تتحول العديد من الأحزاب والتنظيمات اللبنانية إلى مواقع ناطقة بالدفاع عن مذاهبها وطوائفها، وعندما تنتهج سياسات منطلقة من الانتماء الديني على صعيد لبنان وخارجه، وعندما تجيَّش مذهبياً للتصويت في الاستحقاقات الانتخابية، عند كل ذلك أية دولة ستُبنى، وأي وطنٍ سيتأسّس؟

يتحدّث البعض عن المطالبة بجعل لبنان دائرة انتخابية واحدة تحت شعار برّاق وهو الانصهار الوطني، وهو مطلبٌ يتعارض كلياً مع المفهوم الديمقراطي في ظل وجود أحزاب تمثّل مذاهبها في تلك الانتخابات، والنتيجة ستكون محسومة سلفاً وفق التوزيع المذهبي.
 
ومن الطبيعي جداً أن لا تتجرأ القوى السياسية اللبنانية الممثّلة لطوائفها على استحداث قانونٍ جديد للأحزاب في لبنان، إذ لا يُمكن لأي قانون انتخابي حديث ومتطور أن يبصر النور إلّا إذا اقترن فعلياً مع قانونٍ عصري للأحزاب.

وعندما يتمّ تعيين موظفي الفئة الأولى وفق رأي الأحزاب الممثّلة لطوائفها فإننا بالنتيجة لا نبني دولة بل مزرعة تتوزّع حصصها وفق المالكين لها، وتصبح إدارات الدولة مواقع نفوذ لتلك المذاهب، بدل أن تكون مؤسّسات وطنية تقوم بدور ريادي على صعيد الوطن.

لقد انكبّ الرئيس الراحل فؤاد شهاب على بناء المؤسّسات الرسمية، وأجهزة الرقابة طيلة فترة عهده، وأبصرت العديد من المؤسّسات النور في عهده، وكانت بوادر لقيام دولة حقيقية. لكن الواقع كان يعاكس نوايا اللواء شهاب، حيث لمس مدى انتماء الطبقة السياسية، وهذا ما دفعه إلى الرفض المطلق لفكرة التمديد. وقد سجّل التاريخ له أنه الرئيس اللبناني الوحيد الذي طلبت منه كافة القوى السياسية التمديد لعهده لكنّه رفض رفضاً كلياً، فهو فهم جيدا الواقع المأساوي لغياب الشعور بالانتماء الوطني للمواطنين، حيث أن انتماءهم الديني يفوق انتماءهم الوطني.

لا يمكن أن نختصر أسباب الأزمة بالطبقة السياسية وحدها، فهي انعكاس لجمهورٍ يسير وفق غرائزه في دعم القوى التي تنطلق من بيئته الدينية. فهل السبب هو ثقافة شعب، أم تربية عائلية عبر الأجيال؟ هل هو غياب دور دولة توعّي شعبها، أم وطن ضائع تتقاذفه مصالح المذاهب والطوائف؟

لبنان، هذا الخليط المتنوّع، أو كما يطلقون عليه لوحة الفسيفساء، يُحكم فقط من خلال التوافق، وكل الحروب التي شهدتها الساحة اللبنانية عبر التاريخ أثبتت أن ما مِن طرفٍ يستطيع بسط سيطرته مهما تعاظم عديده وعتاده. وهذا التوافق يمنع منعاً باتاً قيام دولة متطورة عصرية، لأنها تتنافى مع مفهوم المحاصصة الذي هو نتاج عملية التوافق في الحكم.

وفي المحصلة النهائية، فإن اشتداد الأزمة الاقتصادية والمعيشية لن يحدِث ثورةً شعبية. فالثورة بحاجة لفكرٍ متنور خارج القيد الطائفي. ومَن يقود هكذا ثورة لن يُدعم إلّا من بيئته، باستثناء قلةٍ من العلمانيين. فشعبٌ لا يتوحّد في أعياده، ولا يتوحّد في أزماته، ولا يتوحّد في مطالبه، ولا يتوحّد تحت قيادة فاعلة، ولا يقرأ في كتاب تاريخ موحّد، لن يقوى على التغيير، وسيبقى أسير الطائفية في نفوسه مهما أُلغيت من النصوص.


*رئيس جمعية كمال جنبلاط الفكرية