فاجأ التدخل الشخصي المباشر للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تسوية نزاع ناغورنو كراباخ، وفي ملف النازحين السوريين، الأوساط السياسية الدولية، حيث لم تدرُج العادة عند الدبلوماسية الروسية أن ينغمس الرئيس في تفاصيل المواضيع الخارجية، إلا بعد استنزاف طاقة فريق العمل الأمني والدبلوماسي، أو عندما تحصل أمور طارئة تُهدد الأمن القومي لروسيا. ومثل هذا التدخل حصل سابقاً في عام 2000 في الشيشان، وفي عام 2008 في جورجيا، وفي عام 2014 في جزيرة القرم، وفي 2015 في سوريا، على سبيل المثال لا الحصر.
كان واضحاً أن قراراً استراتيجياً روسياً دفع بوتين إلى وضع ثقله السياسي والعسكري من أجل إنهاء الحرب بين أرمينيا وأذربيجان، وقد نجح بالفعل في فرض اتفاق وقَّعت عليه قيادات البلدين، وبدأ تنفيذه مساء الاثنين في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، وهو ينص على وقف شامل لإطلاق النار الذي كان قد حصد ما يقرب من 5000 قتيل، على أن تبقى القوات الأذرية في الأماكن التي احتلتها من اقليم ناغورنو كراباخ، وهو ما اعتبرته الأوساط الشعبية الأرمينية هزيمة، لكن نية بوتين غير المُعلنة كانت منع انتصار شامل لأذربيجان، ومنع الهزيمة الشاملة عن أرمينيا في الوقت ذاته، علماً أن الإثنتين من حلفائه. وقد بدأت طلائع القوات المسلحة الروسية تصل على الفور الى الإقليم لمراقبة وقف إطلاق النار، والفصل بين مقاتلي الطرفين.
كان لافتاً تصريح الرئيس الأذري إلهام علييف بعد توقيع الاتفاق، في أن تركيا ستشارك أيضاً في عملية السلام في المنطقة، وبدا كأنه يستدرك إخفاقاً حصل في عدم إشراك تركيا الحليفة لبلاده في الحل، وقد يكون تجاهلها مقصوداً، او أنه هدف روسي إستراتيجي، لأن موسكو شعرت بأن الإندفاعة التركية باتجاه وسط آسيا والقوقاز، بدأت تؤثر في أمنها القومي، وعلى مصالح الدولة العليا. واستمرار الحرب بين أرمينيا وأذربيجان سيؤدي مع الوقت الى تثبيت أقدام تركيا أكثر فأكثر في أذربيجان، وبالتالي الإستفادة منها كقاعدة للإنطلاقة التركية الى دول وسط آسيا. وهذه الدول ترتبط مع تركيا بعلاقات ذات منطلقات دينية وإثنية، وغالبية شعوب تركمانستان وقرقيزيا وكازاخستان وأوزباكستان وطاجكستان لها جذور طورانية تركمانية قديمة، وقد عادت غالبية هذه الدول الى اعتماد اللغة ذات الأصول التركمانية وبأحرف لاتينية - كما في تركيا - بعد أن كانت تستخدم اللغة الروسية على مدى أكثر من خمسين عاماً، عندما كانت منضوية تحت السيادة السوفياتية.
كان يمكن اعتبار التدخُل الروسي الصارم لإنهاء حرب ناغورنو كراباخ مساعدة لتركيا، لأن الاتفاق كان لمصلحة اذربيجان حليفة أنقرة، ولكن اتهام روسيا علناً للمخابرات التركية بالتدخُل لمصلحة أذربيجان، إضافةً إلى ما حصل في سوريا من ضربات جوية روسية في منطقة إدلب، استهدفت حلفاء تركيا، وتبعه دعوة روسية لعقد مؤتمر في دمشق من أجل البحث في عودة النازحيين السوريين، من دون أن تُدعى تركيا، وهي دولة أساسية من دول الجوار السوري، وفيها ما يزيد على 3 ملايين نازح، مُضافٌ الى ذلك التباين الروسي – التركي حول مساعي حل الأزمة الليبية؛ كل هذه الإشارات تؤكد التباين بين سياسة البلدين، وبأن روسيا استفاقت على واقع جديد، لا يمكنها معه البقاء متفرجة، لأن مصالحها القومية تتعارض مع التمذُد التركي في وسط آسيا ومحيط البحر الأسود، وبعض الغزل مع تركيا نكايةً بحلف الأطلسي، أو بسبب تنامي التبادل التجاري بين البلدين، خصوصاً لكون روسيا تخضع لعقوبات أوروبية وأميركية منذ حزيران (يونيو) 2014 بعد ضمها جزيرة القرم التي كانت تخضع للسيادة الأوكرانية؛ لا يكفي لموسكو للتسامح في ملفات تتعلق بأمنها الإستراتيجي على حدودها الجنوبية، وبعض من هذا التسامح في الماضي القريب، أدى الى تراجع نفوذها وسط آسيا، والى خسارتها جورجيا التي أصبحت تدور في فلك حلف الأطلسي، وانسحبت عام 1999 من عضوية منظمة الأمن الجماعي التي تقودها موسكو، والتي تأسست بعد انفراط عقد الاتحاد السوفياتي السابق عام 1990.
روسيا تتحضَّر لإعادة نظر واسعة بسياستها الأمنية والإستراتيجية بالقرب من حدودها الغربية والجنوبية الغربية، وهي بطبيعة الحال تتحسَّب للمقاربات الجديدة التي سيعتمدها الرئيس الأميركي المُنتخب جو بايدن، وهو تعهد في خطاباته الانتخابية بإعادة تعزيز حلف الناتو، ودعم مكانة الحلف على الساحة الدولية بعد أن أصابها بعض التهميش في عهد الرئيس دونالد ترامب. وبالتالي لا يمكن لروسيا أن تخسر المزيد من حلفائها السابقين، خصوصاً أرمينيا وأذربيجان، ولا أن تفقد نفوذها الواسع في البحر الأسود، لا سيما بعد إكتشاف مخزون غاز طبيعي هائل أمام السواحل التركية، يمكن أن يُشكل خطراً على الصادرات الروسية في المستقبل.
وفي إعادة روسيا رسم أولوياتها الإستراتيجية في الجنوب؛ لا يمكن إغفال أهمية ترتيب وضعية مُستقرَّة لحضورها في سوريا، وقد لا يستطيع النظام بصيغته الحالية توفير مثل هذا الاستقرار لمصالحها. ومهمات قاعدتها العسكرية الرئيسية في طرطوس، تزايدت بعد حصول التسابق الدولي على غاز شرق المتوسط، الذي تأمل منه أوروبا في أن يغنيها عن غالبية الحاجة للغاز الروسي، او التأثير في الأسعار العالمية للغاز، وهذا ما لن تقبل به.