Advertise here

عن "الطائف" والحاجة له: لا تلعبوا بالنار!

10 تشرين الثاني 2020 16:53:21

كُتب الكثير عن إتفاق الطائف، عن ظروف ولادته وإستمراره، عن دوره في إعادة توزيع الصلاحيات السياسيّة بين المؤسسات الدستوريّة، وعن المعاني "الطائفيّة والمذهبيّة" لعمليّة إعادة التوزيع هذه، وعن عدم تنفيذ العديد من بنوده لا سيّما الإصلاحيّة منها، وعن مدى الحاجة إليه بعد نحو ثلاثين سنة من ولادته.

وكُتب الكثير أيضاً عن تعديله: "بالممارسة"، وهو ما يعني عملياً إنتهاك الدستور ومخالفة أحكامه، لأن بنود الإتفاق تم إدخالها في نصوص الدستور سنة 1990 وأصبحت نافذة من ذلك التاريخ ويفترض إحترامها من كل القوى السياسيّة. فغريب كيف يمكن لأطراف معينة أن تفاخر بانتهاكها الدستور ومخالفته بهدف تحقيق غاياتها السياسيّة ومصالحها الفئويّة الخاصة.

وإذا كان هذا السلوك يدّل على شيء، فإنه يدّل على أن الثقافة الدستوريّة معدومة لدى البعض، ومفهوم الدستور الذي يسمو فوق كل القوانين ويظللها هو مفهوم مجتزأ بالنسبة لها ومشوّه بما يخالف أبسط أصول الأداء المؤسساتي والسياسي في الديمقراطيّات العريقة التي لا تقبل أن تحيد عن تطبيق الدستور بل تؤكد إحترامها له عند كل محطة ومنعطف.

إذن، المشكلة في لبنان تكمن في جانب أساسي منها في إحترام الدستور وتطبييقه. فالتطبيق هنا مرتبط بتفاهم القوى السياسية! إذا لم تتفق الأطراف السياسيّة على تطبيق الدستور تعلق بنوده، بكل بساطة! هذا يعني أن اللاعبين السياسيين هم فوق الدستور وفوق القانون، بينما المفروض أن الدستور هو الذي يحدّد أدوارهم وصلاحياتهم!

السير على درب تكريس الثقافة الدستوريّة وإحترامها يتطلب مسافة زمنية من الوقت، ولكن الأهم أن يتطلب ترفعاً وسمواً في السلوك السياسي لدى مختلف مكوّنات المجتمع اللبناني. ثمة قوى سياسيّة لبنانيّة شوّهت فكرة حق المشاركة في السلطة وحوّلتها إلى حقٍ في التعطيل. وبذلك، بدل أن تتيح "الديمقراطيّة اللبنانيّة" مجالات المشاركة لمختلف القوى إنطلاقاً من طبيعة التركيبة السياسيّة المحليّة القائمة على التعدديّة والتنّوع بما يحول دون شعور أي من المكونات بالغبن والإجحاف والتهميش، تحوّلت العمليّة السياسيّة اللبنانيّة إلى ما يشبه التفاهمات القبلية التي تستطيع من خلالها "القبائل المتصارعة" أن تمارس حق النقض ضد بعضها البعض.

لقد نصّ إتفاق الطائف على عددٍ من البنود الاصلاحيّة التي، لو أتيح المجال لتطبيقها، لكانت ساهمت في إرساء أسس الدولة المدنيّة القائمة على المساواة بين اللبنانيين وعدم التمييز بينهم وفق إنتماءاتهم الطائفية والمذهبية التي تقف حائلاً ووسيطاً ثقيلاً بينهم وبين دولتهم.

فوثيقة الوفاق الوطني اللبناني تضمنت بنداً يدعو إلى تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسيّة برئاسة رئيس الجمهوريّة ومشاركة رئيسي مجلسي النواب والوزراء وشخصيّات وطنيّة من اتجاهات مختلفة ولها صفاتها التمثيليّة لدراسة الخطوات السياسيّة والتنفيذيّة الآيلة لإلغاء الطائفية السياسيّة. ومن المنطقي أن تسعى الهيئة المذكورة، التي لم تشكل بعد، إلى مراعاة كل الهواجس والمخاوف التي يمكن أن تتولد لدى الطوائف والمذاهب التي توّلت إدارة الحكم في لبنان منذ ما قبل الإستقلال بشكل أو بآخر. فليس المتوقع أو المطلوب أن تتخذ خطوات فورية جذرية دون الإعداد لخطة إنتقالية مرحليّة تلحظ سبل توفير مقومات الانتقال السلس والهادىء والتدريجي نحو إلغاء الطائفيّة السياسيّة. ومع كل ذلك، يشكل مجرد طرح إنشاء الهيئة (وليس الإلغاء الفوري للطائفيّة السياسيّة) موجة هائلة من الاعتراضات السياسيّة المختلفة التي خنقت الإقتراح في مهده.

إن الإجهاض المتتالي لكل المحاولات الإصلاحيّة واجهاضها قبل ولادتها يؤكد أن حالة الإحتباس السياسي مرشحة للإستمرار إلى فترةٍ زمنيّةٍ طويلة، ويؤكد أيضاً أن النفاذ نحو دولة مدنيّة تراعي مرتكزات إحترام المؤسسات والقانون والعدالة الاجتماعيّة والمساواة والإنماء المتوازن وكل عناصر الدولة الحديثة التي يطمح اليها المواطنون، دومنه عقبات جمّة.

كما أن الإصرار على إفشال تطبيق الخطوات الموازية لإنشاء الهيئة الوطنيّة لإلغاء الطائفيّة السياسيّة مثل تشكيل مجلس الشيوخ لضمان حسن التمثيل الطوائفي وتحرير الحياة البرلمانيّة واليوميات السياسيّة من الاعتبارات الطائفيّة يؤكد مرة أخرى الإصرار على إبقاء نظام المحاصصة التقليديّة هو السائد.

أما ما هو أكثر خطورة ويستهدف ليس إتفاق الطائف فحسب، بل الوحدة الوطنيّة اللبنانيّة برمتها، فهو ما يُطرح من مشاريع تقسيميّة وفدراليّة تذكر ببعض ما سبق أن طرح في حقبة الحرب الأهليّة وتم تجاوزه بكثير من التضحيات والدماء، فإذا به يطل برأسه مجدداً ناسفاً صيغة العيش المشترك التي كرسّها إتفاق الطائف وسعى لتحصينها.

هل لا تزال الحاجة لإتفاق الطائف قائمة؟ بكل تأكيد، ليس لأن هذا الاتفاق "مقدس"، فليس ثمّة مقدّسات في السياسة؛ بل لأن التفاهم على صيغة سياسيّة بديلة أو عقد إجتماعي جديد في الظروف الراهنة يبدو مستحيلاً بسبب إختلال موازين القوى الداخليّة بشكلٍ كبير، من جهة؛ وبسبب إحتدام الصراعات الإقليميّة الكبرى من جهة أخرى، ما يجعل مجرّد التفكير بإستيلاد ميثاق وطني جديد مسألة في غاية الصعوبة والتعقيد.

من هنا، هل يمكن رمي البلاد في المجهول؟ وهل يمكن الترويج لمؤتمر تأسيسي جديد في الوقت الذي يعجز فيه اللبنانيون عن معالجة أبسط الملفات كالكهرباء والنفايات والبيئة والطبابة وسواها؟ هل يمكن الإستمرار بخرق الدستور كلما اتاحت الفرصة ذلك ومواصلة السياسات  الشعبويّة ولو كان على حساب المصلحة الوطنية والاستقرار والسلم الأهلي؟

كل هذه الأسئلة المشروعة تعكس صعوبة الوضع اللبناني الذي إتجه نحو الإنهيار بفعل غياب المعالجات الإقتصاديّة والماليّة والنقديّة ما فاقم الأزمات المعيشيّة وأضاف الى تعقيداتها ومشاكلها وأسقط آمال اللبنانيين وأحلامهم وطموحاتهم بدولةٍ توفر لهم مقومات العيش الكريم الذي يليق بهم.

لبنان يعيش أقسى الأزمات في تاريخه المعاصر، وبداية الحل تكون في تطبيق الدستور والتمسك بإتفاق الطائف وإطلاق أوسع عملية إصلاح سياسي وإداري، وليس بنقض هذه المرتكزات الميثاقية التي أصبحت ضرورية أكثر من أي وقتٍ مضى.

هل "الطائف" ضرورة؟ نعم، بالتأكيد. لا تلعبوا بالنار!


(*) مستشار رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط

المصدر: مجلة الضحى