Advertise here

ترامب وبايدن والعرب

02 تشرين الثاني 2020 18:25:00 - آخر تحديث: 09 تشرين الثاني 2020 05:45:31

كتب وزير الخارجية المصري السابق نبيل فهمي في موقع "Independent عربية":

إنقضى صيف 2020 في متابعة المفاجآت المتوقعة الشرق أوسطية، من دون أن يتغير شيء جذرياً في المنطقة، أو ينصلح حال العرب، ومع نهاية هذا الفصل انتقلت الأحاديث والتحليلات السياسية بدرجة كبيرة إلى الانتخابات الرئاسية الأميركية، ‏واحتدت الثرثرة والتنبؤات السياسية حول ترجيح مرشح، أو آخر، وللأسف غالبيتها تفتقد الموضوعية، أو القراءة العلمية، وترتبط بدعوات لترجيح مرشح على آخر.

‏في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، تُجرى الانتخابات الرئاسية الأميركية، وفي فترة وجيزة بعدها تُعلن النتيجة، إلا إذا تأخر ذلك بعض الشيء لمنازعات حول التصويت البريدي، والحاجة إلى المراجعة الدقيقة للأصوات وصلاحيتها في ضوء تداعيات فيروس "كوفيد-19"، والذي لم يستثنِ أحداً، بما فيها الدول العظمى، وأحد المرشحين في السباق الرئاسي.

سيُحدد الناخب الأميركي وحده الفائز بالانتخابات، لذا لن أتوقف عند قراءة فرص نجاح مرشح أو آخر، وإنما سأتناول ما أراه مفيداً بالنسبة إلى العلاقات الأميركية العربية، ‏والاستعداد للتعامل مع ما هو قادم على أفضل وجه.

وسأقوم بذلك بإيجاز شديد اتساقاً مع الثقافة العالمية المعاصرة، التي يتعامل فيها دار النشر والقارئ مع المعلومات بعجالة ‏غير معتادة، في زخم ما يطرح في وسائل عدَّة، على الرغم من تفاقم بعض الموضوعات وحساسيتها.

‏بدايةً، لا غنى عن القول إن الولايات المتحدة ستظل دولة مؤثرة ومهمة في الساحة الدولية للعقدين المقبلين على الأقل، لقوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، إلا أنه من الواضح أيضاً أن الساحة الدولية والإقليمية والوطنية تشهد تغيرات اجتماعية وسياسية وأمنية واقتصادية، ومن ثم فما هو قادم سيختلف عما مضى، ‏وعلى الجميع أخذ ذلك في الاعتبار، بما في ذلك الولايات المتحدة، وبطبيعة الحال العالم العربي أيضاً.

‏ومن الواجب ونحن نتناول العلاقات الأميركية العربية القادمة مُراعاة أن المجتمعات الأميركية والعربية تمر بمرحلة تغير في الهوية، وهي مرحلة غير مستقرة تعكس رفضها كثيراً من الأمور التي كانت تُعد ثوابت أو أنماطاً تقليدية لديها، فهناك ‏تنامٍ كبير في حجم الجالية اللاتينية الأميركية، وثمة غضب لدى نسبة غير قليلة من الناخبين في الطبقة الوسطى لشعورها أن المنظومة السياسية لا تراعي مصالحها، فضلاً عن أن هناك رغبة جارفة لدى الشباب الأميركي للتغيير، ومشاركتهم في الانتخابات مرهونة بمدى تجاوب المرشحين مع اهتماماتهم، وكان انتخاب بوش الابن، ومن ثم أوباما، ولاحقاً ترامب، وكل منهم نقيض سياسي للآخر، تعبيراً صريحاً عن عدم أريحية الناخب.

وفي المقابل، شهدنا توتراً وعدم استقرار سياسي في العالم العربي، وخاصة خلال العقد الأخير، وهي مؤشرات تعكس رغبة في التغيير الشرق الأوسطي والعربي، وثمة ظروف نجحت بعض الدول العربية في التعامل معها بذكاء وإيجابية، في حين أخفق آخرون، ما سمح لقوة داخلية وخارجية باستثمارها لأغراضها، وإن كان هذا لا ينفي أن هناك رغبة شعبية حقيقية وواسعة في إدارة المستقبل باسلوب أفضل مما مضى.

في ظل كل ما يجري على الجانبين، واستمرار التغيرات على الساحات الدولية، ‏على العرب توقع تغير في نمط العلاقات مع الولايات المتحدة، بصرف النظر عمن سيفوز بالانتخابات الرئاسية، لأن المصالح الأميركية في المنطقة قد تغيرت، وستشهد مزيداً من التغيير، والدليل على ذلك أن أوباما هو من أعلن الرغبة في تحويل التركيز الأميركي من الشرق الأوسط وتوجيهه نحو آسيا، ‏قبل أن يُعلن ترامب بعده أن انغماس أميركا في الشرق الأوسط كان من أكبر أخطاء بلاده.

‏وفي هذا السياق، أتذكر مقولة ريتشارد نيكسون لوزير خارجية مصر بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 بأن خروج الخبراء السوفييت من مصر قبل ذلك بعام، كان خطوة كبرى نحو خروجهم من الشرق الأوسط وتطوراً مهماً للولايات المتحدة، في ضوء الحرب الباردة بين الكتلتين الغربية والشرقية، وأتذكر أيضاً الطوابير الطويلة أمام محطات الوقود الأميركية بعد فرض العرب الحظر البترولي عقب الحرب المجيدة، ما جعل الولايات المتحدة تنظر إلى المواقف العربية آنذاك بجدية واهتمام كبيرين.

هذه وقائع تاريخية حقيقية وهامة، ولنا أن نفتخر بها، وإنما من دون أن نغفل أن الحرب الباردة انتهت، وأن الاعتماد الأميركي المباشر على البترول العربي لم يعد قائماً، إذ إن الحسابات والأولويات الأميركية اختلفت الآن، ويجب على العرب أخذ ذلك في الاعتبار وهم ينظرون إلى المستقبل .

‏هذا هو الواقع الجديد، والذي سيتحرك فيه الفائز في الانتخابات الرئاسية أياً كان ترامب، أو بايدن،‏ واقع سيجعل الولايات المتحدة تبتعد عن التعامل الجماعي مع دول المنطقة حتى العربية، وتركز على العلاقات الثنائية المفيدة لها، وتتدخل بدرجات أقل وفقاً ‏لمصالحها المباشرة بعيداً من المنظور الأيديولوجي.

‏ويفترض أن يجعل ذلك دول المنطقة العربية تسعى لحشد إدارة علاقاتها مع الإدارة الأميركية الجديدة، مع تقدير دقيق للمواقف الذي يمكن فيها الاعتماد على الولايات المتحدة من عدمه، ووضع السياسات العربية المترتبة على ذلك ضماناً لمصالحها، وخاصة أن كثيراً منها يرتبط معها بغطاء أمني، أو يعتمد عليها كثيراً في مجال الأمن القومي، ما يجعلني أشدد على أهمية بناء عناصر وآليات الأمن القومي العربي وتحقيق توازن أفضل مع جيرانها، لأن الولايات المتحدة ستقصر تدخلاتها ‏الأمنية حماية للعرب على الحالات الوجودية.

في الوقت ذاته، نظراً إلى حجم الولايات المتحدة ‏وتعدد وتنوع مصالحها الأمنية والاقتصادية والسياسية يجب عدم المبالغة في تصوير الأمور على أنها أو الدول العربية يستطيعان الاستغناء كثيراً أو سريعاً عن العلاقات، أي إن التفاعل العربي الأميركي سيظل أمراً متواصلاً ومستمراً، ‏وبصرف النظر عما ينتخب أميركياً، والاختلاف سيكون في ‏الأولويات والممارسات وسيولة العلاقات، فالولايات المتحدة لن تستغني عن الشرق الأوسط والعالم العربي كلية، والعكس أيضاً صحيح.

ولأكون أكثر تفصيلاً ودقة حول العلاقات العربية الأميركية تحت إدارة ترمب أو بايدن، أوجز أهم تقديراتي في الآتي:

•    ‏انخفض النشاط العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، وسيستمر في الانخفاض، بصرف النظر عن شخصية الرئيس الأميركي المقبل، لكن لن تغادر الولايات المتحدة الشرق الأوسط.

•    ‏ ستكون الدول العربية أقل اعتماداً على الولايات المتحدة مستقبلاً، لكن ستظل هذه العلاقات أقوى من علاقات غالبيتها مع أي من الدول الكبرى الأخرى.

•    ‏ ستكون السياسة الأميركية تجاه إيران أكثر قوة في حالة انتخاب ترامب فضلاً عن بايدن، لكن كليهما لن يستعجل استخدام القوة، وسيسعيان لترتيب الأوضاع مع إيران لتجنب الصدامات بصرف النظر أن ذلك قد يكون أسهل وأسرع مع بايدن.

•    الولايات المتحدة غير مهتمة كثيراً بالساحة الليبية في أكثر من ضبط تنامي النفوذ الروسي في شمال أفريقيا، وهو موقف لا يختلف حوله الحزبين الجمهوري أو الديمقراطي، علماً بأن كليهما قد ينشط دبلوماسياً بعض الشيء في هذه الساحة بعد الانتخابات، للاستفادة من فرص الانفراجة، أو كبح جماح المنافسين لها، إذا لم تزاحمها قضايا أخرى.

•    كل من ترامب وبايدن يقفان في بوتقة السياسيين الواقعيين، والمنفتحين على إجراء مصالحة سياسية مع سوريا كجزء من صفقة إقليمية، وإن كان هذا أصعب مع بايدن عما هو مع ترمب، وينطبق الشيء ذاته بالنسبة إلى العلاقات مع تركيا لعدم ارتياح بايدن لتصرفات أردوغان.

•    ‏سيستمر ترامب في تنفيذ خطة السلام الأميركية التي طرحها بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في حين سيكون بايدن أقل حماسة لها، ويُخطئ من يتصور أنه ‏سيدخل في صدام مع إسرائيل حول السلام العادل العربي الإسرائيلي وحل الدولتين، والمرجح أن بايدن لن ينشط حول هذا الملف إلا إذا طرح الجانب الفلسطيني مبادرة جذَّابة، أو حرك مبادرة السلام العربية بذكاء، ‏وجمع حول تحركه دعماً دولياً وإسرائيلياً.

•    ‏مصر والإمارات والسعودية أقرب الدول العربية لترامب، وسيتعامل بايدن معهما بحذر في أول الأمر، ليثبت أن مواقفه تختلف عن مواقف الأول، وقد يكون أكثر استجابة لجماعات الضغط الأميركية، ذلك قبل أن يعيد الدفة إلى الوسط السياسي مرة أخرى، ‏ويحكم وفقاً للمصالح الأميركية، ويتعامل مع الدول الثلاث بشكل أكثر إيجابية، وفي المقابل أعتقد أن ترامب سيكون أفضل تجاه الدول الثلاث في أول الأمر، ومن ثم أكثر فتوراً إذا لم تستجب لمطالبه المستمرة ولرغبته في تخفيف الحمل الأمني للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والتماشي مع الأولويات الأميركية حتى إذا تعارضت مع القانون الدولي والمصالح العربية المستقرة.

•    ‏هناك تقدم في العلاقات الأميركية – العراقية، وخاصة مع اختيار رئيس الوزراء الجديد، ويُتوقع أن يستمر هذا الاتجاه بصرف النظر عن شخصية الرئيس الأميركي، فكلاهما لا يؤيد ‏الانغماس في العراق، ولا يغفل عنه الحاجة للحفاظ على التوازن في العلاقة مع كل من الولايات المتحدة وإيران، ولا يختلف أي منهما في الموقف من ‏الأكراد، وهو التأييد العام، لكن في حدود، أهمها عدم خلق أزمات مع العراق أو الجيران.

•    ‏نجحت روسيا في استعادة جزء من نفوذها الشرق أوسطي في المشرق، لكن إمكانيتها محدودة، وطموحاتها محسوبة، ولن تشكل مشكلة رئيسة لأميركا في المنطقة في المستقبل المنظور، والشيء ذاته ينطبق على الصين التي تنشط‏ عربياً، وشرق أوسطياً، لفتح أسواق، واحتياجاتها للطاقة، وهي أمور لا تعني الولايات المتحدة كثيراً في هذه المرحلة، خاصة مع الانضباط والحذر الصيني العسكري، إلا أن هناك ‏احتمالات لبعض التطورات والتوترات المرتبطة بحرية وأمان مرور السفن في الممرات ‏المائية في ظل تنامي القدرات البحرية الصينية وإقامة قواعد بحرية بالمنطقة.

والخلاصة، هناك بعض التباين في مواقف المُرشَّحَين للرئاسة على المدى القصير، لكن كليهما غير متحمس للانغماس فيها كثيراً، أو طويلاً، وعلى العرب الاستعداد استراتيجياً لما هو قادم على المدى المتوسط وطويل الأجل، من دون مبالغة في التفاؤل أو التشاؤم إذا خرجت نتيجة الانتخابات بغير ما كان يأملونه، ويفضل التركيز على إيجاد ميزان دقيق بين القدرات الذاتية في مجالات مختلفة، وخاصة الأمن القومي، في الإطار الوطني والإقليمي، ومع الدول الكبرى.