بات من الصعب كتابة أخبار حول أسعار صرف الليرة التركية بشكل يومي، نظرا لتقلباتها المفرطة، فما بين كتابة هذا التقرير ونشره للقراء يمكن رؤية مستويات قياسية جديدة في العملة، والتي تشهد سقوطا حرا، لليوم الخامس على التوالي، في ظل عجز وتبريرات غير مجدية من جانب الحكومة التركية.
ومع انخفاض قيمة العملة التركية، تنخفض القوة الشرائية للمواطنين، ويزداد عبء ديون الشركات والعامة، وتزداد التكاليف في الصناعة، في بلد يقف اقتصاده على "كف عفريت"، على خلفية التشعبات السياسية للحكومة، والتي تصاعدت، في الأشهر الماضية، في ملفات جديدة، في أذربيجان وشرق المتوسط، وأخيرا في الصدام مع فرنسا، والذي ما يزال مستمراً حتى الآن.
وسجلت الليرة أقل مستوى على الإطلاق عند 8.32 مقابل العملة الأميركية، لتكون قد فقدت بذلك نحو 28 بالمئة من قيمتها، منذ بداية العام الجاري، وحسب ما رصد "موقع الحرة" في الصحف التركية، فإنها تتوقع انهيارات جديدة لليرة التركية، في الأيام المقبلة، دون وجود أي حدٍ لتوقفها.
صحيفة "sozcu" نشرت تقريرا تحت عنوان "الليرة التركية تنافس البيزو الأرجنتيني، مع انخفاض قيمتها"، وقارنت وضعها الأسبوعي من عام إلى عام، وعلى مدار ثلاث سنوات مقابل الدولار الأميركي، مشيرة إلى أن "أداء الليرة مقابل الدولار ينافس البيزو الذي أفلس".
وتقول الصحيفة إن "تركيا تمر بأزمة عملة مرة أخرى، إذ تشهد الليرة التركية حالة من السقوط الحر مقابل العملات الرائدة في العالم مثل الدولار واليورو (...) اعتبارا من ظهر اليوم، كان المستوى 8.32 للدولار/ ليرة تركية و 9.77 باليورو/ليرة تركية".
المشكلة ليست اليوم
التدهور الذي تشهده الليرة التركية ليس مشكلة اليوم فقط، فعندما ننظر إلى أداء العملات مقابل الدولار في العالم، في البيانات الأسبوعية والسنوية و 3 السنوات الأخيرة نجد بأن الليرة التركية هي من بين العملات الثلاثة الأكثر انخفاضا (البوليفار الفنزويلي خارج القائمة).
وكانت آخر المواقف حول التدهور من جانب الحكومة التركية هي ما أعلن عنه وزير المالية التركي، براءت البيرق، متحدثا عن خطة مالية جديدة للحكومة التركية، وذلك خلال اجتماع إطلاق البرنامج الاقتصادي الجديد.
وقال البيرق إن حكومة بلاده وضعت برنامجا اقتصاديا جديدا يهدف إلى تحقيق نمو بنسبة 5.8 بالمئة للعام المقبل 2021، و5 بالمئة لعامي 2022 و2023، بينما توقع نموا بنسبة 0.3 في نهاية العام الحالي.
ويشمل البرنامج الذي أعلن عنه وزير المالية إصلاحات استراتيجية في الأسواق المالية، ودعم فاعلية توزيع الموارد، ورفع مستوى الوعي المالي، مضيفا أنه يتوقع انخفاض عجز الميزانية التركية تدريجياً مع البرنامج الجديد بنسبة 3.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لنهاية العام الحالي.
ووفقا للبرنامج الاقتصادي الجديد، أصبح هدف التضخم 10.5 بالمئة للعام الحالي، و8 بالمئة للعام المقبل 2021، 6 بالمئة لعام 2022، وحوالي 5 بالمئة لعام 2023، ويستند البرنامج إلى ثلاثة محاور رئيسة، هي "التوازن الجديد" و"الاقتصاد الجديد" و"التكيف مع الوضع الطبيعي الجديد"، حسب ما ذكرت وكالة "الأناضول".
عوامل اقتصادية وخارجية
أستاذ الإدارة المالية في أكاديمية باشاك شهير، الدكتور فراس شعبو يشير إلى أن "التدهور الذي تشهده الليرة التركية مرتبط بعوامل اقتصادية وداخلية، ومنها خارجية أيضا".
يقول شعبو في تصريحات لـ"موقع الحرة": "الأسباب الداخلية هي حجم الضخ الهائل من الأموال في الأسواق، ولاسيما في ظل جائحة كورونا، إذ ضخت الحكومة التركية أكثر من 200 مليار ليرة في السوق، ما أدى إلى إشباعه بالأموال بشكل كامل".
ويوضح الاقتصادي أن "العملة مثل السلعة، كلما زاد العرض عليها ستنخفض قيمتها".
كما يشير شعبو إلى سبب داخلي آخر للانهيار، وهو "الفائدة المنخفضة (8.25 بالمئة)، الأمر الذي شجع الأتراك على الاقتراض بشكل كبير، في مشهد لم يسبق وأن شهدته السنوات العشر الأخيرة".
ما سبق كان بوابة انهيار الليرة إلى ما دون الـ8 ليرات مقابل الدولار الواحد، حسب الدكتور في الاقتصاد، والذي يقول إن تجاوز سعر 8 ليرات، يرتبط بعدم اتخاذ قرار من جانب البنك المركزي التركي لرفع سعر الفائدة، وهو الأمر الذي انعكس على السوق بشكل مباشر.
ويضيف شعبو: "إلى جانب عدم رفع سعر الفائدة من قبل المركزي التركي فإن آخر مؤشرات الربع الثالث من عام 2020 تشير إلى أن حجم الصادرات في تركيا والسياحة ضعيفة على نحو غير مسبوق، ودون التوقعات، وهو ما انعكس أيضا على سعر الصرف".
ومن المقرر أن يجتمع "المركزي التركي" في جولته المقبلة، في 19 تشرين الثاني المقبل، وبحسب التوقعات فقد يُجبر على رفع سعر الفائدة، من أجل وقف مسلسل الانهيار، الذي لن يقف عند حاجز الـ8 ليرات فقط.
وفي حال رفع سعر الفائدة في الأيام المقبلة، لن يكون هذا الإجراء هو الأول، ووفق بيانات وكالة "بلومبيرغ" فإن البنك المركزي التركي رفع أسعار الفائدة 300 نقطة أساس في اجتماع طارئ في مايو 2018 للحد من خسائر الليرة وزادها بأكثر من الضعف في اجتماع غير مجدول في يناير 2014.
هل يكفي رفع سعر الفائدة؟
على الرغم من ربط الانهيار بأكثر من زاوية بالفائدة وعدم رفعها من جانب "المركزي"، إلا أن اقتصاديين ذهبوا إلى ما هو خارج الحدود، وأشاروا إلى أن السياسات التي تتخذها الحكومة في أكثر من محور، كان لها وقعا كبيرا على ما تشهده العملة الوطنية في الوقت الحالي.
ويكمن جوهر المشكلة، وفق وكالة "بلومبيرغ"، في استمرار قلق المستثمرين بشأن نفوذ الرئيس رجب طيب أردوغان على السياسة النقدية، مشيرة إلى أنه "يضع علاوة على النمو وخلق الوظائف ويتمسك بوجهة نظر غير تقليدية، مفادها أن المعدلات المنخفضة للفائدة تؤدي إلى انخفاض التضخم".
وفي حديثه لـ"موقع الحرة" توقع أستاذ الإدارة المالية في أكاديمية باشاك شهير، فراس شعبو انهيار جديد لليرة، ويقول: "حاجز 8 ليرات أصبح من الماضي ووراء الظهر، وقد نشهد تدهور باتجاه 10.00 ليرات مقابل الدولار الواحد".
ويوضح الاقتصادي أن "انخفاض الليرة مرهون بإجراءات الحكومة، ومدى قدرتها على تفعيل أدوات السياسة النقدية، منها رفع سعر الفائدة وضبط حجم العملة في السوق".
ويشير إلى أن "الوضع الاقتصادي لا ينبئ بأن الوضع سيتحسن، نتيجة تفشي كورونا من جديد، ومع الحديث عن إجراءات حظر جديدة في المدن التركية".