قد يكون من الصعب مجاراة التمنيات وتقدير الإجابة على إمكانية نجاح المفاوضات الفلسطينية- الفلسطينية والوصول إلى المصالحة المرجوة تحت خيمة منظمة التحرير. فالقضية التي شغلت العالم لأكثر من نصف قرن لا يرتبط التعامل مع تفاصيلها الصغيرة والكبيرة بالرغبة أو بالتمنيات، فرغبة جميع الفلسطينيين، ومؤيديهم، والمتضامنين معهم، وداعميهم على اختلاف مشاربهم، أن يتحسن حال الفلسطينيين ويسير الجميع في الداخل وفي الشتات كرجل على قلب واحد.
لكن الرغبات قضية إنشائية لا علاقة لها بالواقع السياسي، فأفضل التقدير أن يطول أمد المفاوضات ومنع انهيارها، والاستمرار في الحوار الداخلي حتى الوصول إلى الانتخابات، وأن تجري الانتخابات، وأن يصل الفلسطينيون إلى تشكيل سلطة جديدة بعد الانتخابات.
لكن التريث بالتفاؤل يرتبط بفهم آليات العمل السياسي الفلسطيني وعلاقته بالاحتلال الإسرائيلي من جهة، وعلاقته بمراكز القوى المؤثرة الأميركية، والأوروبية، والعربية من جهة ثانية، وكذلك علاقته بالمرجعيات السياسية المؤثّرة بالداخل الفلسطيني، سواءً كانت دويلة الإخوان، أم طهران، أم دمشق، أم أبوظبي التي تحتضن اليوم أحد الأجنحة الفلسطينية في سابقةٍ لم تفعلها أي دولة خليجية، وهو جناح محمد دحلان الذي ما زال جزءاً من حركة فتح له وزنه، وامتداده، وتأثيره وقدراته.
وعلى المستوى الأميركي، فإن البيت الأبيض سوف يستمر بممارسة ضغوطه على الفلسطينيين، حتى وإن حلّ المرشّح بايدن مكان ترامب، لأن الإدارة الأميركية الجديدة ستكون مقيّدة بما وصلت إليه إدارة ترامب من نتائج تنفيذية لخطة صفقة القرن.
أما على المستوى الإسرائيلي، فالرأي العام الإسرائيلي يذهب إلى مزيدٍ من التطرف، ومعسكر السلام والاعتدال في تل أبيب أصبح هامشياً، ولا يمكنه التعبير عن نفسه في الكنيست، أو في المشهد الإسرائيلي الداخلي، لا بل وصل إلى أقصى درجات التطرف ضد الوجود الفلسطيني على أي شبرٍ من أرض فلسطين، حيث يعتبر ذلك بالخطر عليه، وعلى يهودية دولة إسرائيل، ولا يوجد من ينتقد هذه التصرفات على مستوى الإعلام العالمي، وتحديداً الغربي.
كما أن الاستراتيجية السياسية والعملانية الإسرائيلية، والتي عبّر عنها الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، عامون يدلن، "أن استراتيجية إسرائيل تجاه الفلسطينيين تقوم على نقطتين: النقطة الأولى، تكريس الانقسام والحفاظ على كيانين مستقلَّين، واحدٌ تحت سلطة منظمة التحرير، والآخر تحت سلطة حماس. والنقطة الثانية، الحفاظ على الهدوء على الجبهة الفلسطينية مع الكيانين، والضغط بشتى الأشكال من أجل عودة التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهدوءٌ مع حركة حماس طويل الأجل ومدفوع الأجر، حيث دفعت دولة قطر، منذ فترة وجيزة، مبلغاً من المال قدره نصف مليون دولار لحركة حماس من أجل التوقيع على تهدئة مع إسرائيل لمدة ستة أشهر، وفق ما نشرته الصحافة العربية والإسرائيلية مؤخراً، إضافةً الى هذه الاستراتيجية، لديها سياسات تفصيلية تقوِّم بها إسرائيل علاقتها اليومية مع قطاع غزة، وعلاقتها اليومية مع السلطة الفلسطينية، وكل هذه السياسات مدعومة بتفوقٍ تكنولوجي، واستخباري، وميداني.
لذلك فإن القطبين الفلسطينيين عندما يعملان على المصالحة، فإنهما يدركان ماذا ستفعل إسرائيل لمواجهتهما، وبأدق التفاصيل، ويدركان ما يمتلكه الجانب الإسرائيلي من مقدّرات كبيرة في اختراق الضفة الغربية، واختراق قطاع غزة، والتحكّم بالمحروقات، والمياه، والخبز، وكل ما يدخل إلى قطاع غزة. كما أن الصحافة الإسرائيلية اليمينية، على سبيل المثال، بدأت تقول إنه، "لا يمكن السماح لحركة حماس الدخول في الانتخابات القادمة"، وكل هذا سيوظّف في خدمة إفشال المصالحة الفلسطينية- الفلسطينية.
وفي شأن العلاقة الفلسطينية مع الدول العربية، ولا سيّما دول الخليج، وبالأخص المملكة العربية السعودية، فإن الانقسام الفلسطيني برز بوضوح في الرد على التصريحات الإعلامية للأمير بندر بن سلطان، والتي توجّه بها إلى القيادة الفلسطينية بشقّيها، السلطة وفتح ومنظمة التحرير من جهة، وحركة حماس والفصائل الموالية لها من جهة أخرى، وكان كلاماً قاسياً ضمن مقاربة يراها الأمير من موقعه كسفير للملكة العربية السعودية في واشنطن، ومساهمٍ في صياغة السياسات التي تخصّ المنطقة العربية، وتحديداً الشأن الفلسطيني، في زمن الرئيس ريغان والملك فهد، وصولاً إلى مبادرة السلام العربية.
لقد جاء رد الفعل الفلسطيني الرسمي متحفظاً، ومتوازناً، وصامتاً إلى حدٍ ما من جهة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وحركة فتح، بينما كان رد فعل حركة حماس أكثر تحرراً في الهجوم على المملكة من موقع الصراع بين الإسلام السياسي الإخوانِ مع القيادة الجديدة للمملكة، حيث أن رد حماس جاء نافراً، ولا يشبه رد الفعل الفلسطيني الذي صدر إثر إعلان التطبيع بين الإمارات والبحرين مع إسرائيل، والذي قال بما معناه إن ما جرى قد جرى، وأنه من العبث مناصبة الحالة الفلسطينية سياسياً وإعلامياً العداء لدول الخليج العربي، لأن ذلك لن يقف عند حدود أي دولة من تلك الدول، بل سيصل إلى المملكة العربية السعودية، مركز الثقل في هذا الموضوع. ولذلك فإن المراجعة السريعة، التي جرت في رام الله لتحديد رد الفعل تجاه عملية التطبيع والدعوة للتهدئة، تتطلب أيضاً معالجة الرد الحمساوي على تصريحات الأمير بندر، ووضعها في سياقٍ سياسي، وليس في سياقٍ مؤامراتي أو عدائي. فالأمير لم يعلن في مقابلاته تلك رأياً شخصياً، بل حاول تقديم موقف المملكة العربية السعودية بشكلٍ غير رسمي، وتحت عنوان المصارحة والنقد.
في الخلاصة لا بد من القول إن مسار الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، مسارٌ مستمر، حتى لو نجحت صفقة القرن بكافة أبعادها وتفاصيلها، وبمعزلٍ عن التوقيع الفلسطيني. فذلك لا يعني أننا أمام حالة سلام، وأن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي قد انتهى، فليس هنالك من قفل لبوابة الصراع لا يستطيع الفلسطينيون كسره، ومن يعتقد غير ذلك عليه مراجعة تاريخ الصراعات السياسية وتبدلاتها وتعقيداتها عبر الزمن، ما يؤكد أن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي مستمر، وأن الفلسطينيين سوف يستكملون نضالهم بشكل مباشر او غير مباشر من أجل الحفاظ على حقّهم في تقرير المصير المشروع لديهم.
من زاوية أخرى إذا كانت إسرائيل بتوقيعها اتفاقات، كامب – ديفيد، ووادي عربة، وأوسلو، لم تستطِع دخول المجتمعات العربية، لا في مصر ولا في الأردن ولا في المجتمع الفلسطيني، فالقوة الأميركية الطاغية عند لعبها دور المطرقة باستهدافها الإمارات العربية المتحدة والبحرين، وإجبارهما على توقيع معاهدتي التطبيع، لا يعني ذلك انتصاراً لإسرائيل. فإسرائيل لم تستطِع دخول دول الخليج العربي بغير الواسطة الأميركية الجبارة، وعلينا رؤية هذا الحدث من هذه الزاوية أيضاً.