شعارٌ لطالما تغنّى به البعض من أجل بناء دولة بعيدة كل البعد عن الطائفية، واستغلّه البعض الآخر لتلميع شعاراته، وإضفاء نوعٍ من الوطنية على عكس ما هو عليه. لكنّه بالنهاية شعارٌ يُحتذى به إذا كانت النوايا صافية، والذهنية عازمة على بناء دولة متطورة ومتقدمة تكسر قيود الطائفية بالفعل، لا بالشعار، وتنتج شعباً يؤمن بدولته، ودولة قادرة على رفع شأن شعبها.
رفعت الطوائف الإسلامية في لبنان منذ اندلاع الحرب اللبنانية شعار إلغاء الطائفية السياسية، فقابلته الطوائف المسيحيّة بشعار العلمنة الشاملة. وهذا التناقض لم يولد من رحم الحرص على بناء دولة معاصرة، بل انطلق من نية الخوف من سيطرة طرفٍ على الآخر بالتوزيع الديمغرافي في البلاد، أي أنّه، وبصريح العبارة، فإن إلغاء الطائفية السياسية، أو العلمنة الشاملة، لم يعبّرا عن المضمون الحقيقي المبتغى منهما، بل عن الخوف من الآخر وتحصين الطائفية في النفوس.
وقبل التطرّق إلى القوانين الانتخابية التي يرفعها البعض من أجل ترسيخ التعايش، وهو حقٌ يرادُ منه باطل، لأن النوايا الحقيقية لا تعكس الرغبة الفعلية للخروج من الطائفية. فقبل إقرار أي قانون انتخابي لا بدّ من وضع قانون عصري حديث للأحزاب، إذ لا يجوز، ولا يُعقل، وجود أحزاب هيكليّتها هيكلية مذهبية طائفية وتنادي في نفس الوقت بالانتقال إلى الدولة المدنية. لا يعقل أن يمارس بعض السياسيين دورهم الديني ودورهم السياسي على حدٍ سواء، ويتبوّأوا مسؤوليات قيادية. فعن أية آلية لإلغاء الطائفية السياسية يتحدثون؟
عندما طرح المعلم الشهيد، كمال جنبلاط، في البرنامج المرحلي للإصلاح، جعْلَ لبنان دائرة انتخابية واحدة، أرفقه بتعديل قانون الأحزاب، كما وأن الوعي الشعبي والحالة العامة كانت بين الفكر اليميني والفكر اليساري، ولم تكن هناك ظواهر التعصّب الديني منتشرة في أرجاء الوطن كما هي اليوم. وكانت انتخابات العام 1976، لو قُدّر، لها لأنتجت تغييراً جذرياً في المجلس النيابي وفق الصراع اليميني- اليساري، والذي انتفى وجوده حالياً لحساب التشرذم المذهبي الحاصل اليوم. وكلّ حديثٍ عن انصهارٍ وطني وفق الواقع الموجود هو كالتلطّي خلف الإصبع.
إن الانتقال إلى الدولة المدنية هو ضرورة حتمية، ولكن لا يمكن أن يحدث ذلك إذا كان التجييش في السياسة ينطلق من الخوف على الوجود، وطبعاً الخوف على وجود المذاهب والطوائف، ولا بد من وضع حدٍ لتدخل رجال الدّين في الشأن السياسي العام. وهذا يتطلّب بطبيعة الحال أخذ المبادرة في حلّ كافة الأحزاب الطائفية. فهل لبنان، دولة ومؤسّسات، قادرٌ على ذلك؟ بالطبع لا، لأن الأحزاب الطائفية تمسك بزمام السلطة، وهي تستفيد من الدعم الخارجي لها، وهذا الدعم ينطلق من الصراع الإقليمي، والذي بُني على الصراعات المذهبية بعد انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي.
في المحصلة النهائية يتبين لنا أن الانتقال إلى الدولة المدنية هو كذبة كبرى يحاول البعض استغلالها لتلميع صورته أمام مطالبه المنطلقة من المكاسب المذهبية والطائفية. ولو طُبّق اتّفاق الطائف بإنشاء مجلس شيوخ كضمانة للمذاهب والطوائف لما كان ذلك يجدي نفعاً، لأن انتخاب مجلسٍ نيابي خارج القيد الطائفي إذا لم يقترن بإنشاء قانون جديد للأحزاب وبعيد كل البعد عن الفرز الطائفي، لكانت الطائفية تدخل فيه من العددية الديمغرافية في ظل النهج الخطابي السائد. لذلك فالأزمة طويلة والحل بعيد الأمد.
هذا هو لبنان، بانتظار وعي شعبٍ أضاع البوصلة عندما توجّه نحو المذهب والطائفة عوضاً عن دولة تحميه ويحميها.
*رئيس جمعية كمال جنبلاط الفكرية