Advertise here

عن بائعي الأوهام والبطاقة الذكيّة

08 تشرين الأول 2020 13:45:17

في البروفا إلى جهنّم الموعودة، يعيش اللبنانيون هاجس رفع الدعم عن ثلاثية السلع الضرورية، الدواء الطحين والمحروقات. مهما حاول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة التقليل من وطأة السيناريو الكارثي، بإشارته إلى "مغالطات في الحديث عن رفع الدعم الشامل عن الضروريات"، وفي تعهده بأن يستمر "مصرف لبنان في القيام بواجباته ضمن إمكاناته". فالمسألة أبعد من ذلك، ولا تتوقف على رغبة المركزي بالإستمرار في الدعم أو وقفه، بل بقدرته على ذلك، في ضوء المتبقّي من العملات الصعبة التي شارفت على النفاذ، ولم تعد تكفي لأبعد من نهاية السنة كحدٍّ أقصى. في ظلّ الواقع المأزوم، لا يحتاج أيّ بائس منّا إلى خبرة في علم الحساب، ليدرك كم سيبلغ سعر علبة واحدة من الدواء، أو صفيحة البنزين، أو برميل المازوت الضروري على أبواب فصل الشتاء، أو حتّى ربطة الخبز بعد رفع الدعم. نسمع تحذيرات الإقتصاديين وبعض النواب من تداعيات القرار، الذي سيطيح بكل استقرار اجتماعي نسبي، ويقلب المشهد إلى ثورة جياع وفوضى في كلّ مكان، لاسيّما في المستشفيات التي ستقفل أبوابها أمام المرضى الذين لا يملكون المال، وما أكثرهم، ما ينذر بمشاكل أمنية بين العاملين فيها وأهل المرضى. ولكن يبدو أنّ أهل الحل والربط لا يسمعون ولا يأبهون سوى للمحافظة على دوام نعيمهم. 

قد يكون الحاكم بحديثه التطميني عن "تأمين كلّ المستلزمات الحياتية للمواطنين" قصد الإشارة إلى تعديل في آليات الدعم، منها رفع الدعم التدريجي، واستبدال الدعم الشامل الذي يطال الفقير والغني على حدّ سواء، بدعم يستهدف الفقراء فقط، من خلال اعتماد "البطاقة الذكيّة" التي أشار إليها سلامة سابقًا. هذه البطاقة تحتاج بدورها إلى تمويل. في هذا السياق يشير الباحث في الإقتصاد السياسي  البروفسور بيار الخوري، إلى أنّه وفي حال تمّ تخفيض الإستهلاك إلى حدوده الدنيا، فستنخفض الفاتورة من 3.5 مليار إلى 2.5، متسائلًا  من أين سيأتون بالدولارات لتمويل البطاقة، في ظلّ اتساع رقعة الفقراء التي لامست الـ 50%؟. هذا فضلًا عن الحاجة  لبناء قواعد بيانات شفّافة لتصل البطاقة التموينية إلى المحتاجين، لأنّ أيّ انتقائية بالتوزيع سيفجّر الغضب. من هنا يرى خوري في حديث لـ "لبنان 24" أنّ البطاقة الموعودة تلك بمثابة بيع وهم للناس، بقصد امتصاص غضبهم، فيما الأسس التي ستقوم عليها غير معروفة، وكذلك كيفية تأمين الأموال لها. 

على مقربة من الذكرى السنوية الأولى لإنتفاضة 17 تشرين، رواتب العاملين بالكاد تكفي للأكل والشرب والدواء، هذا في زمن الدعم، فكيف الحال من دونه؟ الاتحادات والنقابات حذّرت من انعكاسات رفع الدعم، بما يمثّله من شرارة ستشعل البلد. الوصول إلى مرحلة رفع الدعم، هو نتيجة حتميّة للخطيئة التي ارتكبتها السلطة منذ بداية الأزمة في لعبة شراء الوقت، بنظر خوري "إذ كان لدى هؤلاء الوقت والفرصة للمحافظة على الإحتياط من العملات الصعبة، وإطالة أمد الدعم. ولكنّهم اختاروا الدعم "flat" المسطّح الذي يشمل الجميع، فقراء وأثرياء في آن، في حين أنّه كان بامكانهم عدم التصرّف بالعملات الصعبة، التي كانت متوافرة أنذاك بقيمة 14 مليار دولار، وتركها للمحافظة على الاستقرار الإجتماعي، واعتماد دعم موجّه يذهب مباشرة إلى المعوزين، من خلال البطاقة التي يتحدثون عنها الآن وبعد فوات الأوان، بحيث كان  يجب أن تُعتمد في تشرين الماضي، للصمود قدر الإمكان في استراتيجية شراء الوقت، كنّا وفرنا المبلغ، وأنفقنا ثلاثة مليارات سنويًا بدل إنفاقهم شهريًا". 

يضاف إلى الدعم الشامل، استنزاف احتياط مصرف لبنان، بشراء كميات أكبر من حاجة السوق اللبناني وتهريبها إلى سوريا، في جريمة بحق الشعب اللبناني، تحصل يوميًا تحت أعين "الأقوياء" ورعاية الممانعين. "هذا التهريب انتقل من صامت إلى علني، بما يفوق قدرة لبنان على الإحتمال في عزّ أزمته المالية، إذ لا يمكنه تغطية حاجته وحاجة سوريا، خصوصًا في ظل تنامي العجز التجاري بشكل خيالي، وزيادة استهلاك المحروقات في زمن الإنحدار الإقتصادي".  

كل المؤشرات منذ بداية الأزمة، بنظر الخوري، والتي تجسّدت بشح الدولار تؤدي إلى  تحرير سعر الصرف "والنموذج المصري أبرز مثال، بحيث خُلقت سوق سوداء وسوق نظامية، وكان ذلك لتمرير صدمة الأسعار، بعدها رفعوا الدعم، وحرروا سعر الصرف بالتوازي. في لبنان يعتمدون الطريقة نفسها، وقد تستغرق عملية التمهيد هذه حوالي عام". 

بالخلاصة "جملة نقاط استنزفت احتياط المركزي من العملات الصعبة، الإستمرار بسياسة التفلّت، وما رافقها من اعتماد الدعم المسطّح، التهريب، الأموال المهرّبة، الربح الاحتكاري في عملية تسعير المحروقات، حتّى وصلنا إلى اللحظة التي يقول فيها الحاكم لا إمكانية لاستمرار الدعم. اليوم بلغنا لحظة الحقيقة، وسنصل إلى وقت نحتاج المليون دولار في البلد. والحل الوحيد يكمن بالذهاب إلى تسوية سريعة وكبيرة مع المجتمع الدولي، تقدّم خلالها الطبقة السياسية تنازلات، وإلّا ذاهبون إلى الفوضى".  

بأي حال المرحلة المقبلة لن تكون سهلة، الضغط الدولي سيستمر بالتوازي مع الإنهيار المالي، لتقديم المزيد من التنازلات، ولبنان سيفقد مناعته، بنظر الخوري "فكلما انخفضت القدرة على المحافظة على التوازن الإجتماعي كلما تصاعد الضغط  الدولي، إن كان في مفاوضات الترسيم أو مع صندوق النقد الدولي أو مع الدائنين، وواحدة من التنازلات غير المعلنة، الإعلان عن إطار للتفاوض حول الترسيم، بصرف النظر عن تسويقه كانتصار". 

التدرج في رفع الدعم أو البطاقة الذكيّة تلك، وغيرها من التدابير الغبيّة، لن تجدي نفعًا، ولن تكبح عجلات السقوط الكبير، طالما أنّ المنظومة الحاكمة تأخذنا رهائن في معاركها المحليّة للسطو على الدولة وفي أجنداتها الإقليمية، وطالما أنّ وصول شعب بكامله إلى المجاعة أفضل بالنسبة لهؤلاء الحاكمين المتحكّمين من تجميد فسادهم وإفسادهم السياسي والمالي.