من المؤكد أن تبدلات كبيرة ستحصل على مشهد التحالفات الدولية إذا ما إستمرَّ القتال في إقليم ناغورني قره باخ بين أرمينيا وأذربيجان، ذلك أن حسابات الحقل التركية قد لا تتطابق مع حسابات البيدر عند روسيا وايران. والتقاطعات الدولية الكبيرة التي تربط غالبية القوى الكبرى بوسط آسيا والقوقاز، تُنذر بتحول حرب الإقليم المحاصر الى أزمة دولية كبرى، تُفكّفك التحالفات القائمة، وتؤسس لتحالفات دولية جديدة.
إقليم ناغورني قره باخ الذي يقع وسط أراضي أذربيجان وتسكنه أغلبية أرمنية، كان مصدر متاعب للسلطات السوفياتية السابقة عندما ضمت الدولتين المتجاورتين الى الإتحاد عام 1920، وقد أعطته سلطات موسكو نوعاً من الحكم الذاتي لتجنُّب الصراعات الإثنية والدينية في ظل النظام الشيوعي العلماني الذي كان سائداً، ومع إنفراط عقد الإتحاد السوفياتي عام 1991، إندلع قتال بين أرمينيا وأذربيجان، وتمكن المقاتلون الأرمن في الأقليم من طرد القوات الأذرية، وعادت موسكو المُتعبة في حينها وتدخلت لوقف القتال، وأرست إتفاقية جديدة بين الدولتين الجارتين في مدينة بشكيك عاصمة قرقيزيا عام 1994. لكن التوترات المحدودة كانت تحصل بين الحين والآخر بين الفريقين، ما دفع بمؤتمر مدينة مينسك لمنظمة الأمن والدفاع في اوروبا عام 2018، إلى تشكيل لجنة تضم روسيا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا لحل النزاع القائم بطريقة سلمية.
ورغم تدخُل مجموعة مينسك، ونداءات كل من وزيري خارجية روسيا سيرغي لافروف وفرنسا جان إيف لودريان، وطلب الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش وقف القتال؛ ما زالت المعارك تدور بشراسة في الأقليم ومحيطه، وتستخدم فيها كل أصناف الأسلحة التي تنتمي الى منظومة الأسلحة الروسية التي تمتلكها أرمينيا وأذربيجان منذ القِدم، مع دخول أسلحة نوعية جديدة الى ساحة القتال، لا سيما "المُسيرات الجوية الإسرائيلية" التي تستخدمها باكو بقوة، مقابل مسيرات إيرانية أخرى مشابهة تستخدمها يريفان. وهذه العوامل التي دخلت على خط الأزمة المفتوحة، قد تُعيد خلط الأوراق، وهي تُنذر بإنتاج أزمة دولية كبرى، إذا ما تفاقم الوضع واستمرَّ القتال.
من المؤشرات على اعادة التموضع عند قوى دولية وإقليمية كبرى على خلفية أزمة قره باخ: بدء تفكُّك التعاون الذي كان قائماً بين مثلث الإستقطاب الأوراسي الروسي – الإيراني – التركي، والذي كان قائماً في السنوات الماضية، وقد عقد رؤساء هذه الدول اجتماعات عدة بينهم على خلفية تنسيق الموقف حول ما يجري في سوريا، وفي مواجهة التأثير الأميركي والأوروبي في المنطقة. ويبدو أن التعاون بين هذا المثلث الدولي المؤثر، بدأ يتلاشى، وما ينطبق على سوريا بينهم، لا ينطبق على القوقاز، خصوصاً على الوضع في أرمينيا وأذربيجان. ففي الأولى قاعدة عسكرية روسية بموجب معاهدة تتكفل روسيا فيها حماية ارمينيا من أي إعتداء خارجي، كما أن لإيران علاقات إستراتيجية معها على خلفية الإنحياز الأذربيجاني "الشيعي" لصالح تركيا "السنية" وبسبب ملفات نفطية واستراتيجية أخرى، بينما لتركيا حسابات مختلفة عن حسابات الثنائي الروسي – الإيراني، ذلك أن أنقره تعتبر أذربيجان بوابتها الى دول وسط آسيا المُسلمة، والتي يعود غالبية من سكانها الى أصول تركمانية – طورانية، بينما أرمينيا بالنسبة إلى تركيا بمثابة العدو التاريخي الذي يؤذي شرق تركيا عندما تسمح له الظروف، والتاريخ في علم السياسة لا يموت.
وعلى الضفة الأخرى من الحسابات الدولية الإستراتيجية، يمكن أن تؤسس أزمة قره باخ لتحالفات جديدة، تدخُل بموجبها الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل على الخط، وتقفا الى جانب أذربيجان، في محاول لحشر روسيا وايران، ولإنقاذ تركيا من المأزق التي تتخبط فيه وحيدةً من ليبيا مروراً بسوريا والعراق وصولاً الى أذربيجان، وهذه الفرضية قائمة، والعلاقات بين إسرائيل وأذربيجان قديمة، وفي الحسابات الإسرائيلية الخبيثة: كل ما يُمكن أن يُشغل جيرانها عن عدوانها مُباح.
والعامل الأساسي الآخر الذي قد يُبدِّل في خارطة التحالفات الدولية، هو الدور الأوروبي الذي يخشى من تطور الحوادث في قره باخ، لأن أنابيب غاز بحر قزوين التي تُغذي جزءاً مهماً من الإحتياجات الأوروبية تمرُّ في أراضي الإقليم، ولأن منطقة القوقاز بمجملها قريبة من الحدود الغربية للإتحاد الأوروبي، كما أن الإخلال بالتوازنات الإستراتيجية في وسط آسيا، قد يساعد في تبدُّل المشهد في الشرق الأوسط، خصوصاً إذا ما تمكنت تركيا من النفاذ الى تحالفات دولية كبرى تنقذها من الحصار الإستراتيجي الذي تعاني منه.
تتشابه ظروف حرب ناغووني قره باخ اليوم بحرب القرم التي وقعت منتصف القرن التاسع عشر؛ المصالح الروسية والتركية متضاربة دائماً وسط آسيا، حتى ولو كان البلدان صديقان. والغارقون في الحرب يستنجدون المساعدة او التأييد، والذين خارجها يتفرجون، او أنهم لا يبيعون مواقف بالمجان، ودائماً الثمن يُدفع في مكانٍ آخر.