مصطلحٌ جديد أدخله بعض القادة السياسيون اللبنانيون على خطابهم السياسي باستعمال عبارة "عدم المسّ بالكرامة الوطنية"، محاولين اللعب على عواطف ومشاعر جمهورهم، من خلال إظهار دورهم كمدافعين عن كرامة المواطن اللبناني. وفي جوهر أدبياتهم يركّزون على عدم السماح بالتدخّلات الأجنبية في الشؤون الداخلية اللبنانية، ويجاهرون برفض الإملاءات الخارجية ومواجهتها بالمقوّمات الداخلية اللبنانية.
هذه الظاهرة أصبحت تشكّل مدعاة سخرية للرأي العام اللبناني.
عن أية كرامة وطنية يتحدثون، وعن أية سيادة يجاهرون؟ الكرامة الوطنية هي في تأمين مقوّمات الحياة بحدّها الأدنى للشعب. الكرامة الوطنية هي في عدم إذلال المواطن في تعاطيه اليومي بمعيشته. لم يعد هنالك همٌ للمواطنين سوى معرفة متى دوام التقنين لكهرباء الدولة، ومتى لكهرباء المولّد، ومتى يأتي دور الحيّ الذي يقطنون فيه بمياه الشفة، وترقّبهم لعدم انقطاع، أو تقطّع، خط الإنترنت أثناء دراسة أبنائهم، والتقصّي عن أسعار الخضار بين هذا المحل أو ذاك. وبدل أن يضع المواطن اهتمامه بتربية أولاده، أصبح يعطي قسماً أساسياً من وقته في تربية الدواجن. بربّكم عن أية كرامة وطنية تتحدثون؟
اعتمدوا في البرامج التربوية للمدارس على التركيز حول أطماع إسرائيل بمياه لبنان. فهل استفاد اللبنانيون من مياه بلدهم، أم أنهم يشترون مياه الشفة إلى جانب دفعهم لاشتراك المياه؟ فالدولة اللبنانية على امتداد العهود، وبالرغم من وجود آلاف الآبار الجوفية، لم تستطِع تأمين مياه صالحة للشرب وخاليةٍ من الجراثيم. وتتحدثون عن الكرامة الوطنية؟
يدفع المواطن من تعبه وعرق جبينه ما جمعه عبر السنين لتعليم أولاده، وعند التخرّج يصبح الخرّيج أمام خيارين، إما الهجرة أوالتوسّل لدى المرجعيات لتأمين وظيفة هنا وهناك، ولو بالحد الأدنى للأجور. وتتحدثون عن الكرامة الوطنية؟
العديد من المؤسّسات التجارية تقفل أبوابها، وتصرف موظفيها في ظلّ أزمةٍ اقتصادية خانقة، وأزمةٍ صحّية لم يشهد لبنان مثيلاً لها. الأسعار في ازدياد مطّرد، والفقر يطرق الباب تلو الآخر، وما زال القيّمون على الحكم يحاولون تفصيل شكل الحكومة على مقاييسهم. فعن أية كرامةٍ وطنيةٍ تتحدثون؟
اجتاح النظام السوري لبنان عام 1976 للقضاء على فكرة النهوض الوطني بأفكارٍ علمانيةٍ تقدمية، وقضت إسرائيل على القضية الفلسطينية باجتياحها لبنان عام 1982، ودخل لبنان في الصراعات المذهبية، واستباح الحرس الثوري الإيراني لبنان للإمساك بالورقة اللبنانية على طاولة المفاوضات الدولية، ولم يُنصّب رئيسٌ للجمهورية عبر تاريخ لبنان إلّا بتدخلاتٍ خارجية. وتتحدثون عن السيادة الوطنية؟
أدخلتم لبنان في حصارٍ سياسيٍ واقتصادي بسبب مواقف لا تمتّ للبنان بصلة من خلال التدخل في شؤون دولٍ أخرى على حساب حياة اللبنانيين. أفلَمْ يعد للّبناني من هموم سوى ما يجري في اليمن والعراق، أو في البحرين وسوريا، أو في أفغانستان وباكستان؟
وضعتم سياجاً أمام المنفس الاقتصادي الوحيد للّبنانيين، وهو دول الخليج، وأذليتموهم عبر ما وصلت إليه البلاد وتتجرأون بالحديث عن الكرامة الوطنية.
تأكّدوا تماماً أن تلك الشعارات الرنّانة والطنّانة لم تعد تجدِ نفعاً، إلّا مع أولئك الذين يسيرون خلف تعصّبٍ أعمى، وولاء مستميت في ظل تحجرٍ فكري. أما الرأي العام فلم تعد تنطلي عليه تلك الأكاذيب، وأسلوب النفاق المعتمد، فالشمس ساطعة والناس قاشعة.
*رئيس جمعية كمال جنبلاط الفكرية