خطت مصر، إلى جانب الأردن واليونان وقبرص وإسرائيل وإيطاليا، خطوات واسعة نحو إنشاء سوقٍ إقليمية للغاز بمنطقة شرق المتوسط والتي تحمل الصفة الرسمية للتمثيل في المحافل الدولية، بما يعادل منظمة "أوبك" (منظمة الدول المصدرة للنفط)، وذلك بعد توقيع الميثاق الخاص بتحويل "منتدى غاز شرق المتوسط إلى منظمة إقليمية حكومية مقرّها القاهرة.
إن تحويل منتدى غاز شرق المتوسط إلى منظمة إقليمية دولية- تحترم حقوق الأعضاء في استخدام مواردها الطبيعية، والاستفادة منها ومن احتياطاتها بما يتفق ومبادئ القانون الدولي، واستخدام البنية التحتية، وبناء بنية جديدة بهدف تأمين احتياجاتها من الطاقة لصالح رفاهية شعوبهم - يعني تمكّن الدول المشاركة في إرساء سياسة ثابتةٍ مستدامة، وبعيدة المدى، بمشاركة ومباركة الولايات المتحدة الأميركية التي شاركت كعضو مراقب، وبفعل وجود إسرائيل كعضوٍ مؤسّسٍ للمنتدى من جهة، وإسهام الولايات المتحدة الأميركية عبر وزير خارجيتها في التخفيف من حدة التوتر التي رافقت انشاء المنتدى، ولا سيّما الاندفاعة التركية نحو ترسيم حدودها المائية مع الحكومة الليبية، واعتمادها نظرية الجرف الصخري في التعامل مع الجزر اليونانية، ومع الجزء القبرصي التي تسيطر عليه أنقرة، والاتّجاه نحو التنقيب عن النفط والغاز في تلك المناطق، ومحاولتها قطع الطريق أمام أي تمديد لأنابيب الغاز بين مصر وإيطاليا ومصر واليونان، مستخدمةً العراضة العسكرية تحت شعار حماية حقوقها من موارد الطاقة في المتوسط.
حاولت تركيا فرض مشاريعها بالقوة، فنشرت أسطولها البحري وأرفقت القوارب المسلحة إلى جانب معدّات التنقيب لحمايتها، وأجرت مناورات عسكرية بالذخيرة الحية على مقربة من الشواطئ اليونانية وشواطئ قبرص (اليونانية). كما أطلق الرئيس أردوغان العنان لمواقفه النارية المعتادة، وصال وجال في المتوسط مستذكراً التاريخ العثماني، في محاولةٍ لإسقاطه على الواقع الحالي والمستقبلي. لكنه سرعان ما عاد ليتراجع ويسحب معدات التنقيب، والقوات العسكرية، ويعلن استعداده للحوار البنّاء مع اليونان، ومع جمهورية مصر العربية.
تراجُع أردوغان بدأ عندما استشعر جدية الموقف الأوروبي في التعامل مع استفزازاته لليونان، حيث قادت فرنسا تحركاً خشناً في المتوسط دعماً لليونان، وزوّدتها بـ 18 مقاتلة من طراز "رافال" المتطورة التي تصنعها شركة داسو الفرنسية. كما نشرت فرنسا وإيطاليا قوات عسكرية في شرق المتوسط، وشاركت في تدريبات مع اليونان وقبرص، وذلك في إطار مبادرة التعاون الرباعية (إس. كيو. إيه. دي)".
كما نظّم ماكرون قمةً أوروبية مصغرة ضمّت الدول المطلّة على البحر المتوسط، وتوعدت القمة بفرض عقوباتٍ على تركيا ما لم تتوقف عن سياسة "المواجهة" في المتوسط.
الولايات المتحدة الأميركية لم تقف مكتوفة الأيدي تجاه التحركات التركية في شرقي المتوسط، إذ حطّ وزير خارجيّتها، مايك بومبيو، في زيارة خاطفة إلى جزيرة قبرص، وأعلن عن رفع حظر السلاح المفروض على الجزيرة العضو في الاتحاد الأوروبي، كما زار اليونان وتباحث مع رئيس وزرائها حول آفاق الحل السياسي، كما أكّد على التبادل والتعاون العسكري بين البلدين وفق ما ورد في البيان الصادر عنهما، فيما تناقلت تقارير إخبارية احتمال نقل الأسلحة والقوات الأميركية المتمركزة في قاعدة إنجرليك التركية إلى جزيرة يونانية، وهو ما دقّ ناقوس الخطر في أنقرة.
كما اتّخذت مصر خطوات على أكثر من صعيد لمواجهة التحركات التركية، إذ وقّعت القاهرة اتّفاقاً مع أثينا لترسيم الحدود البحرية، وعزّزت من تنسيقها مع قبرص وفرنسا، كما حدّد الرئيس المصري خطاً أحمراً حاسماً بوجه التوغل التركي في ليبيا عند مدينتي سرت والجفرة، ما فرض قواعد جديدة للصراع في ليبيا.
التراجع التركي في المتوسط لخّصه تصريح زعيم حزب المستقبل التركي المعارض، أحمد داوود أوغلو، والذي هاجم فيه أردوغان قائلاً إن سياساته، "جعلت تركيا وحيدةً في أزمة شرق المتوسط، وبلا حلفاء تقريباً في المتوسط"، وانتقلت البلاد من نظرية "صفر مشاكل"، إلى "صفر أصدقاء وحلفاء"، حيث أدخل أردوغان تركيا في معركةٍ مع الاتحاد الأوروبي، وفتح نيرانه على فرنسا واليونان وقبرص، في الوقت الذي كان يهاجم وينتقد الرباعي العربي مصر، والسعودية، والبحرين، والإمارات.
الدور التركي التصعيدي في المتوسط قابلته سياسة مصرية هادئة، ومتوازنة، ومدروسة، في إدارة الصراعات مع تركيا، وإسرائيل، وأثيوبيا، وكذلك مع ليبيا. وهذه السياسة أثمرت نتائج عميقة وقوية، بحيث ستكون القاهرة مركزاً إقليمياً لتلك المنظمة. هذا التطور الجديد في شرق المتوسط، بما فيه من انكسارٍ حاد لمحاولة الصعود والتمدّد التركي، يظهر في مغازلة أنقرة للقاهرة عبر خط التواصل الأمني بين الجانبين المصري والتركي، وحيث حاولت تركيا أن تقول إن الأمور ذاهبة نحو الأفضل، وأنه يمكن استمالة القاهرة نحوها، فيما أصدرت القيادة المصرية كلاماً سياسياً واضحاً حدّدت خلاله شروطها للتعاون مع تركيا، وهي عدم التدخل التركي في ملف الإخوان المسلمين في مصر، والأمن القومي المصري خطٌ أحمر لا يمكن تجاوزه مع أمن البحر المتوسط وتمديدات الغاز والطاقة فيه.
من جهةٍ أخرى حذّر خبراء أتراك من انزلاق أنقرة إلى مرحلة من الركود الاقتصادي الطويل الأمد، ما لم يُعِد أردوغان النظر في سياساته التوسعية، سيّما وأن تركيا تحتاج، وفق مصادر صندوق النقد الدولي، إلى 165 مليار دولار أميركي خلال الأشهر الـ 12 القادمة لسداد وتمويل الديون قصيرة الأجل، والمتراكمة على الاقتصاد التركي. هذا في الوقت الذي أصبح فيه سعر الليرة التركية يساوي سعر الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، وحذّر الخبراء من تجاوز سعر صرف الدولار الأميركي ثمانية ليرات تركية.
بالتوازي مع الانكفاء التركي، وفشل البلاد في لجم الصعود المنتظم لمنتدى غاز المتوسط، والذي سيكون لغيابها عنه آثاراً سلبية على دورها في سوق تصدير وتحويل الغاز، وفي ظل العقوبات التي تواجه خط أنابيب (نورد ستريم2 و تورك ستريم)، يبدو أن لبنان أيضاً، وبعد ترنّح المبادرة الفرنسية، وعدم إنجاز ملف ترسيم الحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي، على اعتباره أحد ملفات التفاوض الأميركي - الإيراني، ما يضيّع على لبنان فرصة الاستفادة من مخزونه الغازي والنفطي، ويُفقده موقعه التاريخي الذي لعبه على مدى عقود من الزمن كبوابة عبور، ونقطة تواصل بين الشرق والغرب.