Advertise here

خلوة الاستغراق الروحي عند كمال جنبلاط بريشة شوقي دلال

28 أيلول 2020 16:23:39

كتب الدكتور شوقي أبو لطيف في "النهار":

يلفت الناظر في لوحات الفنان شوقي دلال الجديدة، أنه يمارس بريشته الخلاّقة "طقوساً يوغيّة"، لكأنّه يحاول أن يقدّم، بواسطة الفن التشكيلي، رسالة ملحّة، في هذا المسار المرير من الزمن، مفادها الدعوة الى الإمتناع، وهي الخطوة الأولى من الصراط نحو الاستغراق الروحي، فالامتناع هنا يعني الكفّ عن الأذى، والكذب، والسرقة، وما الى ذلك من مفاسد السلوك البشري، وهو أول ما تقرّه نصوص السوترا يوغا الهنديّة من خطوات ثماني، تنتهي "بالسامادهي".
بيد أنّك، مع شوقي دلال، لن تتوقف عن التفكّر التأمّلي، الذي ينظّم رؤيتك للوحته "خلوة الشاوي للمعلّم كمال جنبلاط"، بل يمكنك تجاوز ذلك التفكّر نحو المعرفة، على ما كان يفعله كمال جنبلاط، أي التوجّه نحو معرفة الشيء بكليته، حتى وإن كانت هذه المعرفة تتم بالرؤية، وطبعاً هنا رؤية العناصر المكوّنة للوحة.
 
لنبدأ بقراءة اللوحة من يسار الناظر إليها، حيث نجد جزءاً من مدخل الخلوة، يمهر شوقي دلال توقيعه على الجزء السفلي من الجدار، ويكتب بخط يده "خلوة الشاوي- مرستي- الشوف- خلوة المعلم كمال جنبلاط". ويرتفع فوق التوقيع جدار من حجارة، هي أشبه بالطوب الناري، مكردسة، تنعكس عليها ألوان، هي أميَل الى أن تكون معتّقة بمرور الزمن، ويتفيّأ الى جانبها جذع شجرة يابسة، وربّما بقيّة سراج يتآكله الصدأ، وفي خلفيّته مشكاة من طين مصبوغ بلون نيلي، لكأنّما يرشح زيت السّراج العتيق ليرسم هيئة طائر تستوي على ظل عامود خشبي يسند الحائط، وقد أصابه وهنٌ متقادم.
 
وفي يمين الناظر، يتراءى على المدخل باب مفتوح ينقسم الى قسمين، يظهر في العلوي منه شكلان لمثلّث قائم الزاوية، فيما لا يبدو من القسم السفلي سوى ما يشبه المثلّث غير المكتمل، على أنَّ الألوان البارزة تتراوح بين الأزرق النيلي والأبيض والأسود، وبعض من تعتيق لوني يحاكي انعكاس نور الشمس على خطوط الباب المتعرّجة، ومادّته غير المشذّبة.
 
وتركن فتحة الباب الى جدار من حجارة وطين، مثلما يركن إليهما بقايا محراث، لكأنّما السوس يتآكل جوفه، بمرور السنين، فتتلاشى حبيبات النسغ اليابسة المنهكة على عتبة المكان، كأنّما تئنُّ بكلمات مرسومات، لتنبئ عن كوّة في الجدار حدثت، بعد تساقط الحجارة وانكشاف جزء من طين كانت تلتصق به. وعند الدخول الى أرضيّة الخلوة يلفتك على يسار الناظر سجّادة من صنع يدوي، مرتقة من جزئين على وصل غير متناسق، في حين أن ازدهاء ألوانهما يوحي أنّهما من بقايا أثاث القصر القديم لآل جنبلاط في المختارة. كما يلفتك "الوجاق القاطرجي"، والأريكة، والحائط الذي يبدو كما لو أنه ستارة تخفي نافذة على تخوم الخلوة.
 
لكنما الباب بدرفتيه المفتوحة والمغلقة يدهشنا، بسبب أنّه مفتوح بشكل معاكس لانفتاح الأبواب العاديّة، فهو مفتوح نحو الخارج، ومن هذه الفتحة، ينسرب الضوء الى أرضيّة تبدو كأنّها بحيرة فيروزجيّة، تلمع في أموائها لآلئ المرجان، ويسطع على سطحها وهج نور الظهيرة في هدأة من يوم شتائي مشمس.
 
في هذه الرؤية المرتكزة الى تفكّر منتظم، يتراءى لنا شوقي دلال من "وجهة الشاهد" الى خلوة كمال جنبلاط، حيث يجعل في الأغراض المحسوسة دلالة الى الحقيقة، دلالة الى من هو كمال جنبلاط، فمن هذه الوجهة يتراءى لنا الفنان شوقي دلال قارئاً حصيفاً لحوار يعود الى الخمسينيّات من القرن العشرين، بين كمال جنبلاط المريد، والمعلّم كريشنامينون في الهند، والذي كان يرى أن في كل غرض محسوس شعاعاً من الوعي منطلقاً من الذات، الزاعمة أصلاً أنّها تدرك حسيّاً الغرض أو الشيء.
 
على أننا إذا ما استبصرنا في ما فوق العتبة من ألوان مختلفة، فلكأننا نبدو في حيرة بين ما ترتكز إليه الحجارة الثمانية ذات اليمين وذات اليسار من اللونين الفيروزجي والنيلي، وانعكاس الضوء على العتبة التي تحمل الأحجار، فإننا نجد هنا أن شوقي دلال يخوض، بتجربته الفنيّة الجديدة، ما خاضه الشاعر فؤاد الخشن في قصيدته الرائعة: "شيخي ذو الثوب الأزرق"، إذ اتخذت تلك الرائعة الشعريّة حيّزاً عميقاً من المجرى اللازمني للفيض الأزلي، بانبثاق النور في العقل الأول وتنزيلاً نحو العقل الهيولاني. بيد أن شوقي دلال قد قطع مسافات شاسعة في "اليوغا- سوترا"، حينما ركّز على "السامادهي": أي الإستغراق الروحي، حيث يتسامى "الفن الشقدلالي"، في المسار الأبجدي اليوغي الجديد، لتطوّر الإبداع في اللون، والتشكّل الخطوطي، والإيحاءات التي تغتني بها اللوحة، إذ انه في هذه الخلوة كان كمال جنبلاط يمارس الإستغراق الروحي في استكمال الأخلاق والآداب اليوغيّة التي تعتبر حالاً متقدّماً من اليوغا، وبتطبيقها على العمليّات العقليّة نجد أنّها تنطوي على التلاشي الكامل لأي صراع في الأفكار، وعندما يصل المرء الى تأمل كهذا تنبثق فكرة الأحديّة العضويّة الواحدة، لتستمد معها العناصر خصوصيتها من الكل؛ أي من الواحد تماماً، وهو في لوحة شوقي دلال "النور الأزلي"؛ أي الوعي.
 
كان كمال جنبلاط، في خلوة الشاوي، يحيا في غبطة سنيّة عليا، يخرج من مندرجات النفس في حالاتها الحسيّة والتخيّلية والفكرية، وحتى اللامفكر فيها، الى صمت الصمت في أقصى أعماق الوعي. وفي لوحة خلوة الشاوي يبدو لنا شوقي دلال مريداً يبتغي الإنعتاق في اختبار يوغي- صوفي، يبدأ بجعلنا نطلق النظر في مكوّنات اللوحة، نمتّع أنظارنا بمجموعة الصور والعناصر والألوان التي تشكلها، ومن ثم يأخذنا نحو إمعان التأمّل الذي يرينا في اللوحة وحدة تامّة، من خلال تركيب عناصرها في وحدة تأليفيّة تعبّر عن شخصيتها، بل عن شخصيّة الخلوة، ودلالتها الحقيقية، لنختبر معها ما توقظه من كشف رؤيوي، فالمشهد هادئ، والأشياء تبدو على ما هي عليه، لا يظهر شيء نافر في اللوحة، بيد أن تناغماً فيها لا بد وأن يلمحه المتأمّل بين عناصرها، ألا وهو الضوء، ومن هذا الضوء يستطيع الشاهد أن يرى من هو كمال جنبلاط، في هذا الشعاع من الأغراض. لكن توحده مع الحس، ومع الفكر، ومع الحواس، قد يوهمنا أننا نتوجّه فعلاً نحو هذه الأغراض الكائنة بذاتها، فنعطيها الأسماء، بينما هي التي تتوجّه إلينا، لتقول لنا من هو شوقي دلال، الذي لا يفكّر هنا البتة، إنّما تتلاشى ريشته في النور، بعد صراع طويل بين وعيه الحقيقي والعناصر الماديّة في فنّه التشكيلي من #ثقافة وأفكار وألوان وحواس، حيث تغلب لديه فكرة سامية، أو عاطفة روحانيّة، أو تقنيّة احتراف، لتنمي جزء الوعي، فيتناقص الجزء المادي من اللوحة لصالح وجود نعيم رؤيوي، هو محض وعي وجود، على أن شوقي دلال الفنان، العارف بكمال جنبلاط المعلم، لن يقف عند حدود اعتماد الأغراض دلالة الى الحقيقة، بل يتصرف فيها، يتصرف بالأشياء، بالمحراث، وبالسراج والأشجار والأحجار وبسجادتَيْ الأرضيّة، وباتجاه فتحات الأبواب، كأنّه يجعلها تضمحل وتتلاشى، لينتقل من وحدة الوجود بين الأشياء والواحد، أي من رؤية الواحد في الأشياء، الى رؤية الواحد من الواحد بلا شيء يكدّر صفاء الوعي، وإذ ذاك ينبري كمال جنبلاط وعياً في محض ذاته الجوهريّة، منعتقاً، متحرّراً، حكيماً، متحقّقاً في ما يتجاوز الفكر الى الرؤية الأشمل، فلطالما أشار بعض عارفي كمال جنبلاط اليوغي، الى أنّه كان يمارس فعل المعرفة فيما يتجاوز الفكر، كأن يبدأ ذلك الفعل عندما يتوقّف التفكير وينتهي دوره، ليُؤتى إليه بمعرفة جديدة نتاجها الفرح الحقيقي في تشكّل إدراكي جديد لوحدة الوجود في سياق هارموني متصل ومتجدّد، يدخل الى كيان الوعي ويغنيه من أجل إتمام بلوغ الواحد الأسمى في توالي التأملات وترابطها، فيما تعبّر عن مشهديّة خلوة الشاوي، وهذه التأملات، وإن اتسمت بتكرار عناصرها الرؤيويّة، لكنها ولا ريب تستدعي ما هو جديد، من أجل معرفة أكثر اتقاداً واستشرافاً.
 
ولقد قرأ شوقي دلال في ذينك الاتقاد والاستشراف معرفة جديدة، ليجسّدها في لوحة "خلوة الشاوي"، التي تنمُّ عن سلسلة جديدة من روائعه الإبداعيّة، المنطلقة من لوحات سابقة، كلوحة "الجسد"، التي ازدان بها غلاف كتاب "الجسد رموز ودلالات" للدكتور جمال زعيتر، وكلوحة "الطاو الإيناني السعيد"، كما يحلو لي أن أسميها، وهي التي ترسم وجه حكيم هندي يعتمر قلنسوة فسيفسائية الإطار، إينانيّة الشعار، نرفانيّة الدثار.
 
هنيئاً لشوقي دلال إبداعه المتميّز باستغراق روحاني كمالي، على مشارف ما بعد التاريخ، من تلاشي رغبات العقل، وخلوّه من الأغراض، وانعتاقه من القوالب، كطائر يرود الكون غريباً عن الإناء. 
 
(*) كاتب وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية