Advertise here

الفدراليّة والتقسيم وما بينهما!

26 أيلول 2020 10:18:41

 ليس الهدف من هذا المقال الرد على ما يُنشر من دراسات ومواقف ومقالات تتعلق بالفدراليّة التي عادت الأفكار المتصلة بها لتزدهر في المرحلة الراهنة ظنّاً من البعض أنّها المخرج الأمثل لتجاوز حالة الانقسام اللبناني العميق على مختلف المستويات؛ بل إنها محاولة متواضعة لتصويب النقاش وإستكماله من منطلقات أكثر علميّة وواقعيّة في آن.

 ثمّة خصائص للأنظمة الفدراليّة تتطلب عناصر لا يتيحها الاجتماع السياسي اللبناني بفعل الانقسامات المتجذرة بين اللبنانيين والتي تتفاقم بين الحين والآخر فإما تنفجر في إطار نزاعات مسلحة (وكانت التجربة الأكثر عنفاً واستدامة الحرب الأهليّة اللبنانيّة الطويلة 1975- 1990) أو أنها تترجم نفسها في تعطيل دستوري ومؤسساتي يجعل العمليّة السياسيّة شديدة التعثر ويحوّلها رهينة لدى المعطلين ومن يقف خلفهم.

 وتكرّست هذه الممارسة التعطيليّة بعد إتفاق الدوحة (2008) عندما إستساغت بعض القوى السياسيّة أسلوب نقض القرارات التي لا تتلاءم مع مصالحها الفئويّة فشوّهت بذلك مفهوم الديمقراطيّة التشاركيّة والتوافقيّة التي تُمارس في المجتمعات التي تقوم على التعدديّة والتنوع وفق قواعد واضحة ومحددّة. وصارت اللعبة السياسيّة أسيرة "الفيتوات" و"الفيتوات المضادة" ما جعل إدارة شؤون البلاد مسألة في غاية الصعوبة والتعقيد فتفاقمت المشاكل في أبسط القضايا الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعيشيّة.

 كما ساهمت الممارسات السلبيّة في تكريس أعراف سياسيّة جديدة منها مثلاً منح الثلث المعطل في الحكومات المتعاقبة لأطراف معيّنة ما جعل إسقاط الحكومة ورقة بيد قوى محددة وليس بيد رئيسها على سبيل المثال. وتتوالى الأمثلة في هذا الصدد وهي كثيرة وعديدة على مدى السنوات الأخيرة.

 مهما يكن من أمر، فإن الفدراليّة تتطلب توافقاً على السياسة الخارجيّة وهذا أمر بديهي في تلك الأنظمة. فهل مكونات المجتمع السياسي اللبناني قادرة على بناء سياسة خارجيّة موحدة؟ أليست الخلافات المحليّة مرتبطة إلى حدٍ بعيد بخيارات السياسة الخارجيّة ومكوناتها؟ أليس الصراع التاريخي المتواصل بدور لبنان في المنطقة وعلاقاته مع الدول والأطراف الفاعلة والمؤثرة متواصلاً ولم يتم حسم الخيارات الأساسيّة فيه؟

 ثم، أليست السياسة الدفاعيّة أيضاً من العناوين الرئيسيّة المطلوب التفاهم حولها؟ أليس إضعاف الدولة راهناً وعدم تمكينها من إحتكار وظيفة الدفاع عن أراضيها أحد أسباب الخلاف المحلي اللبناني؟ أليس تنصّل رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون من وعده السابق الذي قطعه قبل الانتخابات النيابيّة الأخيرة بالدعوة إلى حوار وطني حول الخطة الدفاعيّة المنتظرة شكل من أشكال القبول بالأمرالواقع واستدامته إلى أجل غير مسمّى؟

لقد دعا الرئيس عون القوى السياسيّة إلى الحوار حول مختلف الأمور (وبعض هذه الدعوات كان فولكلوريّاً إلى حدٍ بعيد، فيما شكل البعض الآخر مخالفة صريحة للدستور لا سيّما ما يتعلق بالمشاورات حول تأليف الحكومة الجديدة، وهي من صلاحيات الرئيس المكلف، تماماً كبدعة التأليف قبل التكليف التي إخترعها)؛ إلا أنه لم يوجه دعوة للحوار حول الاستراتيجيّة الدفاعيّة.

لذلك، إذا كانت وظيفة الدفاع غير متفق عليها، والسياسة الخارجيّة موضع نزاع، كيف يمكن التفكير بالمطالبة بالفدراليّة كحل لمشكلة الانقسامات السياسيّة اللبنانيّة؟ من هنا، تبدو إعادة تفسير قواعد النظام الفدرالي لبعض المطالبين بها من الهواة في السياسة أو من غير الهواة مسألة ضرورية قبل إستكمال النقاش السياسي أو العلمي.

**

إذن، ما الحل؟ وكيف السبيل للخروج من هذه الدوامة التي يعاني منها اللبنانيون والتي إفتعلها النظام الطائفي والمذهبي الذي فرز المواطنين بحسب إنتماءاتهم الطائفيّة وأسقط مساواتهم أمام الدستور والقانون وجعل فرصهم غير متكافئة سواءً في شغل المناصب العامة أو في الشؤون الاجتماعيّة الأخرى. لقد أدخل هذا النظام اللبنانيين في قمقم صغير لا يتسع إلى طموحاتهم وتطلعاتهم بقيام الدولة المرتجاة.

لقد نصّت وثيقة الوفاق الوطني اللبناني- إتفاق الطائف (1989) على تشكيل الهيئة الوطنيّة لإلغاء الطائفيّة السياسيّة التي تضم رئيس الجمهوريّة ورئيسي مجلس النواب ومجلس الوزراء وشخصيّات متنوعة تكون مهمتها الرئيسيّة البحث في أطر إلغاء الطائفيّة السياسيّة ووضع الآليات المطلوبة لتحقيق هذا الهدف.

كما نص على إنشاء مجلس للشيوخ يُتاح من خلاله تأمين التمثيل الطوائفي كي لا تتخوّف الطوائف من بعضها البعض ومن فقدان تمثيلها في المؤسسات الدستوريّة وبالتالي إبتعادها عن المشاركة في إتخاذ القرارات الكبرى، على أن يتم "تحرير" الحياة السياسيّة والبرلمانيّة من التمثيل الطائفي والمذهبي ومن الحسابات الضيقة التي تتحكم به راهناً نظراً لسعي مكونات السلطة لإرضاء القواعد الطائفيّة.

ولم يتغاضَ إتفاق الطائف عن الاشارة إلى اللامركزيّة الاداريّة التي من شأنها خلق مناخ وواقع مناطقي ومحلي جديد مغاير للواقع الراهن الذي يتسّم بالمركزيّة الشديدة التي باتت تعارض مع أبسط مفاهيم الدولة الحديثة والمعاصرة، وثمّة مشروع متكامل للوزير السابق زياد بارود يستحق البحث والنقاش كي يسلك طريقه إلى التنفيذ بعد طول إنتظار.

إلا أن ثمة مقاربات جديدة في نقاش اللامركزيّة الإداريّة تتضمّن ما يُسمّى باللامركزيّة الماليّة التي لم ينّص عليها إتفاق الطائف وهي بمثابة إلتفاف على اللامركزيّة الادارية وسعي مبطن لتوسيعها في غير الاتجاهات المرجوة منها، ما يحوّل النظام تدريجيّاً إلى فدراليّة مقنعّة. لذلك، يبدو النفاذ من هذا المدخل نحو التقسيم أو الفدراليّة محاولة خبيثة لتمرير مشاريع خطيرة تناقض الصيغة الوحدويّة اللبنانيّة الراهنة وتطرح العديد من علامات الاستفهام حول الأهداف الحقيقية والدوافع المحليّة والاقليميّة التي تقف خلفها.

قد تكون الظروف الإقليميّة الضاغطة وظروف الانقسام المحلي المرتبطة بها غير ملائمة في هذه اللحظة لنقل النقاش السياسي البديهي المرتبط بالادارة اليوميّة لشؤون البلاد وشجونها (كتشكيل الحكومة الجديدة على سبيل المثال) نحو النقاش الميثاقي والتأسيسي، ذلك أن الخلاف الراهن لا يقتصر على الخيارات السياسيّة الكبرى في الشؤون الخارجيّة والدفاعيّة وسواهما، بل يتصل أيضاً بإختلال موازين القوى مع ما سوف يعنيه ذلك من إنعكاس على التركيبة الراهنة واستبداله بتركيبة أخرى تعكس موازين قوى جديداً.

فمن الذي سيضمن أن ترتكز الصيغة السياسيّة الجديدة إلى ثوابت لا يجوز المسّ بها كحماية التعدديّة والتنوّع والديمقراطيّة (رغم علاتها وعثراتها وتعقيداتها الراهنة) والحريّات العامة وسواها من المسارات التي لطالما تميّز بها لبنان وهي قد تكون معرّضة للاستبدال والتغيير وفقاً للحسابات الجديدة وبعضها مناقض تماماً لتلك الميزات التفاضليّة الآخذة في التناقص (أقله في المجال الاقتصادي مع تقهقر القطاع المصرفي اللبناني وإنفجار مرفأ بيروت والتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة جرّاء إتفاقات التطبيع العربيّة- الاسرائيليّة التي تخطو خطوات سريعة ستعيد رسم المشهد الاقليمي برمته وفق حسابات جديدة وموازين قوى جديدة وحتى أدبيّات سياسيّة جديدة مغايرة لتلك التي كانت سائدة في الحقبة الماضية لا سيّما في النصف الثاني من القرن العشرين).

قد لا يكون إتفاق الطائف الاتفاق المثالي الذي يحقق طموحات اللبنانيين بقيام دولة عصريّة تحترم المساواة بين المواطنين وتعزّز آليات المحاسبة والمساءلة والشفافيّة والحكم الرشيد؛ ولكن الكيد أنه الاتفاق الذي سيكلف إسقاطه أثماناً باهظة قد تفوق الأثمان التي سُددت للتوصل إليه. إن اللحظة الدوليّة والاقليميّة مغايرة تماماً بتعقيداتها وتحالفاتها وحساباها المصلحيّة، وظروف إعادة بناء تفاهمات وطنيّة ترضي مختلف شرائح المجتمع اللبناني وتحظى بغطاء عربي ودولي لا تبدو ناضجة أو حتى متوفرة بالحد الأدنى.

لذلك، قد يكون من المفيد التمسك بهذا الاتفاق الميثاقي والسياسي واحترام بنوده والدفع في إتجاه تطبيق ما لم يُطبّق منه والخروج من عقدة الحقد التاريخي تجاهه التي تبدو وكأنها متأصلة عند البعض ظنّاً منهم أن ذلك قد يفتح لهم آفاق المشاركة الأوسع بينما العكس تماماً هو الصحيح!

إن المنعطف السياسي الراهن في لبنان خطير ومفصلي. هذا الوطن الصغير يستحق الحياة ويستحقها بشكل أفضل.

المصدر: النهار