Advertise here

الأبعاد الدولية للأزمة اللبنانية

22 أيلول 2020 08:52:34

لا يمكن للبنان أن يكون غزة ثانية، ولا يمكنه أن يكون مثل اليمن أيضاً، وتجربة العراق لا تنطبق على الوضع اللبناني. ومع أهمية غزة والدول المذكورة، فإن للبنان خصوصية ليست في أي مكانٍ آخر، وهو كالوردة بين فسيفساء المحيط، وكالحسكة التي يصعب ابتلاعها أحياناً، وبعض الأحيان مثل الشوكة في خاصرة المعتدين. كانت جبال لبنان وسواحله وسهوله مقبرة للغزاة عبر تاريخٍ طويلٍ غابر، وعلى هذه الأرض تلاشت أمبراطوريات عدة، وتراجعت قوى كانت تعتبر نفسها لا تُهزم. ذلك ما حصل مع كسرى ومع هولاكو ومع غزوات الصليبيين ومع باشوات مصر ومع جمال باشا، ومن ثمَّ مع العدوان الوحشي الإسرائيلي، وأخيراً مع مجموعات الأمن والاستطلاع السورية، ومن يحاول مجدداً وضع اليد على لبنان فسيلقى المصير ذاته.
 
للأزمة غير المسبوقة التي يعيشها لبنان في هذه الأيام امتدادات دولية، وخلفيات عقائدية وميثولوجية غريبة، ويبدو بعض اللاعبين على مسرح الحوادث كالهواة الذين لم يقرأوا التاريخ، أو أنهم لم يأخذوا بأي من العِبر التي مرَّت بالاعتبار. والجمهور لا يصفق دائماً للمشهد الذي يتكرر مرتين، حتى ولو كان قد صفق له في المرة الأولى قبل أن يتأكد من معانيه وأهدافه. وسياسة فرض الفراغ، ومن ثمَّ التعطيل، ومن ثمَّ فرض الشروط، ومن ثمَّ الانتقال الى الخطوة التالية في مسلسل قضم السلطة وفرض النفوذ، ليست قاعدة قابلة للحياة على الدوام، وقد يختنق البطل أو يموت قبل أن تكتمل فصول المسرحية. 
 
ويستحضرنا في توصيف حالة البؤس اللبنانية الراهنة، مشهدية جوع الأطفال في تيهةِ البحر واختناقهم، ومن ثمّ رميهم للغرق على أيدي فلذاتِ أكبادهم، أو أعزَّ مَن لديهم. واللبنانيون الذين يجوعون ويختنقون من البؤس ومن الوباء ومن الاستهتار، يقفون على حافة الزورق، وهم يخشون من رميهم بالبحر على يد من أحبوهم، أو أعطوهم ثقتهم يوماً ما، لكن لبنان يرفض الغرق، وسيقاوم "لسبعة" كما قاوم هشام صفوان سبعة أيام سباحة بالبحر من دون طعام، الى أن عاد سالماً الى عكار في الشمال.
 
من الواضح أن وراء الشروط - وربما وراء الشروط المضادة - التي تواجه تشكيل الحكومة اللبنانية العتيدة، أبعاداً خارجية، ذلك أن الجمهور اللبناني لا يصدق أن أياً من القيادات اللبنانية لا يعرف صعوبة الوضع اللبناني وحاجة هذا الوضع للإنقاذ، وفي أن اللحظة السياسية ليست لتقديم اشتراطات تأسيسية أو عقدية خشِنة، بل هي لانتشال الغريق اللبناني قبل أن يموت اختناقاً في مياه الإهمال والفشل والمكابرة، خصوصاً إذا ما كان مَن يُطلق هذه الاشتراطات التي تُحدث تغييرات جوهرية على طبيعة النظام التوافقي، مُتهماً بأنه يملك فائض قوة، ويستثمر مرافق الدولة أكثر من أي طرفٍ لبنانيٍ آخر. وقد بدا طرفا الثنائي الشيعي اللذان يملكان مكانة متقدمة في الحياة اللبنانية، غير مُقنعين في إطلاقهما شروطاً سياسية تأسيسية في وجه حكومة إنقاذية موقتة، تحددت مهمتها مسبقاً في اللقاء الذي عقده الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مع قادة الأحزاب الرئيسية اللبنانية في قصر الصنوبر مقر السفارة الفرنسية في اول ايلول (سبتمبر) 2020. وبدا المشهد واضحاً أمام الرأي العام، في أن تمسك الطرفين بالحصول على وزارة المال وتسمية الوزراء الشيعة، له أبعاد خارجية، لأن الفريقين يتمتعان بنفوذٍ كبير في تركيبة الحكم الحالية، ولديهما قوة سياسية كبيرة ومؤثرة، لا يمكن لأحد أن يتجاهلها، ووضعهم شروطاً على تأليف الحكومة الإنقاذية، تظهَّر كأنه طلب خارجي بهدف تأخير ولادة هذه الحكومة لكي تتبلور صورة الانتخابات الأميركية، أو لإفشال المبادرة الفرنسية، أكثر مما هو تحسين شروط المشاركة في توزيع السلطة، أو الإثنين معاً، ولكن حتى طلب الحصول على امتيازات داخلية جديدة للثنائي؛ لا تحصل إلا إذا كان هناك قرار خارجي من مِحور إقليمي بوضع اليد نهائياً على لبنان، والتفاوض عليه مع أخصامهم الدوليين.
 
من المؤكد أن هناك توافقاً دولياً كبيراً يقضي بإيقاف المزاح السياسي والأمني الذي تمارسه إيران، وربما غيرها على الإقليم، والميدان الذي تؤدي فيه هذه الدولة أكبر من المساحة المخصصة لها، والعدوان الإسرائيلي يستفيد من هذا الانفلاش، للتغلغُل في المساحة العربية على حساب قضية الشعب الفلسطيني. والمبادرة الفرنسية التي تراعي مصالح إيران، تتماهى هي الأخرى مع التوجهات الأميركية والروسية، والأخيرتان ضاقتا ذرعاً من محاولات إيران وتركيا اللَّعِب بكامل أوراق المنطقة في دول المشرق العربي وفي المغرب، لا سيما في ليبيا ووادي النيل.
 
يبدو واضحاً أن أسر لبنان من قبل قوى الممانعة، يقابله إصرار دولي على تغيير قواعد اللعبة في لبنان. والقوى المحلية اللبنانية في معظمها تتماهى مع المبادرة الدولية التي تقودها فرنسا، كونها خشبة الخلاص الوحيدة الباقية، ولأن تجربة رعاية قوى الممانعة للبنان، كانت فاشلة، وأوصلت البلاد الى الإفلاس والشعب الى المجاعة، وليس لهذه القوى أي سبيل لمساعدة لبنان مالياً واقتصادياً، لأنها هي بالذات تعاني من الانهيار ايضاً.
 
المكونات اللبنانية المختلفة، بما فيها "التيار الوطني الحر" الذي كان على تحالف قوي مع "حزب الله"، تخشى من شروط "الثنائي الشيعي" في هذا الوقت بالذات، وتخاف من الأبعاد الإقليمية لهذه الشروط، كونها تُكرِّس غلبة داخلية تقضي نهائياً على التنوع في لبنان، وتربط البلاد بسياسة إقليمية راديكالية تلغي الفكرة اللبنانية العربية برمّتها.