Advertise here

التطبيع مع اسرائيل... هل يحقق السلام؟

18 أيلول 2020 16:58:17

المشهد الرباعي من على شرفة البيت الأبيض، يحمل في طياته مجموعة كبيرة من الرموز. فالرئيس الأميركي دونالد ترامب، الرجل الأقوى في العالم، والذي يقود أقوى دولةٍ في العالم، تحدّث بكل ما يراه مناسباً لدولته وله حيث يخوض انتخابات رئاسية كثيرة الدقة والحساسية. تلاه في الحديث أقوى رجلٍ في الشرق الأوسط، والذي يقود أقوى دولة في الشرق الأوسط، والذي تحدّث أيضاً بما يناسبه، فيما الرجلين الآخرين، وزيرا خارجية البحرين والإمارات تحدّثا عن المستقبل والأمان، والتسامح والسلام، فهما لا يقودان دولاً تصنّف بالقوية، بل هي دولٌ صغيرة وضعيفة. 

النصوص المكتوبة المعلنة لهذه المعاهدات تناولت القضايا العامة، ولم تتناول الأهداف المباشرة للسلام، وارتباطه بالقضية الفلسطينية التي التصقت مشاريع السلام في المنطقة باسمها، وبالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من تطرق المعاهدة الإماراتية- الإسرائيلية للجانب الاقتصادي بينهما، فإن المشهد بشكله فتح أمام المتابعين والباحثين والمحلّلين شهية الربط بين الصورة برمزيتها وتوقيتها، وبين الحدَثين المتزامنَين: الانتخابات الأميركية، والصراع الأميركي- الإيراني، فمنهم من اعتبر الحدث جزءاً من الحملة الانتخابية للرئيس ترامب، ومنهم من اعتبر الحدث بمثابة إنشاء تحالفٍ عسكريٍ أمنيٍ بين الدول الأربعة لمواجهة إيران ومشاريعها في المنطقة، أي أنّ ما جرى هو دون معاهدة السلام.

نصف الشعب الأميركي يعتبر أن الرئيس ترامب يكذب في خطاباته، وأنه لا يعير الاهتمام لدول لا يعرف موقعها الجغرافي، ولا يحفظ أسماء قادتها، وأنه في استضافته لحفل التوقيع أراد إغراء كتلة ناخبةٍ مهمة ومؤثرة في صناعة القرار الأميركي. إلّا أن اللّافت في حفل التوقيع كانت كلمة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والذي تحدّث عن حقيقة الموقف الإسرائيلي، والنظرة الصهيونية للسلام، فاستحضر في كلمته "عهد التوراة" ليحقّق نبوءة "النبي يوشع": "بالسيف والقوة أصنع السلام، ويأتي الآخر إليَّ من رهبة السيف، ورهبة القوة ليطلب الحماية". هذا هو ما ورد في "سفر يوشع" وفي أسفارٍ أخرى مثل "سفر التثنية" التي يدعو فيها إله إسرائيل أنبياءها وقادتها إلى تدمير خصومهم، والاستيلاء على أراضٍ ليست لهم، وتدمير الممالك، واعتبار أن الّله وعدهم بهذا. والآن جاء نتنياهو ليقول كما قال "يوشع" إن، "الرب وعدني، وأن القوة والسيف أعيش بهما وانتصر بهما، وأصنع سلامي بهما".

لقد ذهب نتنياهو في كلمته المكتوبة إلى ما هو أبعد من العودة إلى "التوراة"، فوضع نفسه في مقام ملوك إسرائيل الحديثين، ليربط نفسه بمؤسّسي الحركة الصهيونية، وبشخصية دافيد بن غوريون، ومناحيم بيغن، ويتجاوز شخصية إسحاق رابين الذي حقّق الانتصارات العسكرية لإسرائيل، والذي وقّع اتّفاق أوسلو مع الرئيس ياسر عرفات، وهو أراد من خلال ذلك دفن اتّفاق أوسلو في المكان الذي ولد فيه، وفي التوقيت الذي اعلن عنه 13 أيلول 1993، كما تعمد إنكار الوجود الفلسطيني والحق الفلسطيني، فهو لم يستخدم في كلمته اسم فلسطين، إنما استحضر الفلسطينيين، ووصفهم بالإرهابيين، عندما تحدّث عن "معركة عنتيبي" التي قُتل خلالها أخوه. نتنياهو في خطابه هذا قال أمام الجميع أن الرب وعده أن يهلك خصومه، وأن لا يعترف، بهم، ولا يتفوّه باسمهم، لذلك استحضر فلسطين كعملية إرهابية ضد الشعب الإسرائيلي وضد اليهود.

عندما تصبح القضية على هذه الشاكلة، يصبح استخدام الدّين بمدلولاته العنيفة (ثورية كانت أم جهادية) جائزاً، ويضع الجميع في معسكرٍ واحد، أكانوا من اتباع الديانات السماوية، أو الديانات الوثنية من دون عداء أيديولوجي بينها. فمع استخدام العنف باسم الدِّين من أجل سحق الأعداء، وإنكار وجودهم، وإرغامهم على توقيع السلام أو الاستسلام بقوة السيف لتحقيق النبوءة، أو وضعهم في خانة الأتباع تحت عنوان الحماية من الآخر، يصبح الجميع شركاء في الإرهاب، وتسقط بالتالي شعارات السلام، وعناوين العداء أو التطبيع على حدٍ سواء. فما يحقّ لنتنياهو يحقّ لغيره، فلكلٍ دينه وشعاراته ونبوءته، ولا يمكن من خلال ذلك الفصل بين هذا وذاك مهما تبدّلت المعاني والمصطلحات السياسية التي تُستخدم لاستحضار وإطلاق العنان لمكونات العنف المكنونة في الأساطير الدينية المختلفة وإطلاق العنان لها.

ما شهدناه في البيت الأبيض، وبذكرى توقيع اتفاقية أوسلو، هو عملية دفن للسلام. فما قاله إسحاق رابين عن إن، "الإسرائيليين يحتاجون لـ 15 عاماً لهضم وقبول اتفاقية أوسلو"، مسحه نتنياهو بإنكاره "اتّفاق المبادئ الأولية"، ورفضه "حلّ الدولتين"، لا بل استحضر الدِّين والقوة لدفن السلام، ولمسح الذاكرة بصورةٍ جديدة في التوقيت المشابه. نتنياهو قال أمام الصحفيين إنه، "على الفلسطينيين المقيمين في المدن التي تسمى دولة فلسطينية أن يعرفوا أنهم خاضعون للسيادة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية". وهذا الكلام يُسقط السيادة ويُنهي حلّ الدولتين، وبالتالي فإنّ مَن وقّع السلام في البيت الأبيض متسلحاً بشعار " الحق الوطني بالسيادة والحماية"، لا يمكنه دعوة الفلسطينيين للحاق به وتوقيع سلامٍ منقوص "السيادة والامن" مع إسرائيل.