Advertise here

هل تغيير الصيغة السياسيّة اللبنانيّة قفزة في المجهول؟

17 أيلول 2020 08:32:00 - آخر تحديث: 24 أيلول 2020 15:02:41

يتنامى الحديث في لبنان عن التغيير الجذري في الصيغة السياسيّة لناحية إعادة تركيبها وفق أسس ومعطيات جديدة تحت ذريعة أن الصيغة الراهنة قد سقطت ولم تحقق المطلوب على المستوى الشعبي إن كان لناحية مشروع قيام الدولة أو توفير الحد الأدنى من الحقوق البدهيّة للمواطنين الذين يعيشون في هذه المرحلة أقسى أزمة اقتصادية واجتماعيّة منذ استقلال لبنان سنة 1943 بسبب تراكم الفساد بشكل غير مسبوق وإبقاء الملفات الحيويّة من دون حلول، ما أفقد الثقة بكل البنيان السياسي والتنظيمي اللبناني.


إن الاتفاق الناظم للحياة الدستوريّة والسياسيّة في لبنان هو اتفاق الطائف الذي أُقر بمسعى دولي وعربي قادته المملكة العربية السعودية بالتفاهم مع الولايات المتحدة وسوريا، وذلك في عام 1989 وقد أدخل جملة من الإصلاحات الأساسيّة على طبيعة التركيبة اللبنانية ومرتكزات توزيع الصلاحيات في المؤسسات الدستوريّة، فأناط السلطة التنفيذيّة بمجلس الوزراء مجتمعاً بعدما كانت بمعظمها في يد رئيس الجمهوريّة. وتكرّس مفهوم «حكومات الوحدة الوطنيّة» بالممارسة بعد إقرار الاتفاق بتشجيع من الوصاية السورية التي رعت هذه التشكيلات الحكوميّة الموسّعة، بحيث تمكنت من خلالها من توزير أزلامها ومحاسيبها ورفعت كتبة التقارير إلى المراتب الوزارية الرفيعة.


لقد كانت الحجة لذلك هي أنه في مرحلة ما بعد الحرب، من الضروري إشراك أكبر شريحة ممكنة من القوى السياسيّة في السلطة التنفيذيّة، ولكنّ الممارسة لم تعكس بدقة هذا الشعار، إذ إنه في الانتخابات الأولى بعد الحرب التي أُجريت سنة 1992 حصلت مقاطعة واسعة لا سيّما من القوى المسيحيّة وعدد محدود من الأطراف الإسلاميّة، فجاءت الحكومات لتعكس توجهاً غير مكتمل للوحة الداخليّة. واستفادت الوصاية السورية من هذه المقاطعة لملء الفراغ بمن كانوا يُحسبون عليها.


المهم أن انضمام كل الأطراف إلى السلطة التنفيذيّة أفرغ اللعبة الديمقراطيّة من مضمونها وأسقط حركة المعارضة والموالاة، فصارت الكتل البرلمانيّة ممثلةً في الحكومة، وضعفت آليات المحاسبة والمساءلة وهي واحدة من أبرز وظائف السلطة التشريعيّة وأكثرها تأثيراً في المساعدة على انتظام الحياة الديمقراطيّة وفاعليتها.

إلا أن سوء الممارسة السياسيّة لم يقتصر على هذا الجانب من الحياة الدستوريّة، فالمجلس الدستوري الذي تأسس في مطلع التسعينات لم يُمنح صلاحيّة تفسير الدستور والقوانين، وحُصرت صلاحياته في البت بالطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسيّة والنيابيّة والنظر بدستوريّة القوانين. وحتى هذه الأخيرة ليست صلاحيّة تلقائيّة بل هي مرتبطة بتقدّم المرشح الخاسر بالطعن عن الدائرة الانتخابيّة المعنيّة. أما الإصلاحات الأخرى المنتظرة والتي من شأنها إحداث تغيير نوعي في طبيعة الحياة الوطنيّة والسياسيّة فتم تأجيل، لا بل تعطيل، تنفيذها بهدف الحفاظ على المكتسبات التي يوفّرها النظام السياسي الحالي لعدد من اللاعبين وفي طليعتهم القوى الطائفيّة والمذهبيّة.


في كل مرّة طرحت فيها قوى معيّنة إلغاء الطائفيّة السياسيّة واجهتها قوى أخرى بطرح العلمانيّة الشاملة، ما أدّى إلى تعطيل هذا الطرح وذاك، وهذا هو المطلوب عمليّاً، أي الإبقاء على نظام المحاصصة الطائفيّة والمذهبيّة والزبائنيّة الذي يقف حائلاً دون تطوير فكرة المواطنة ومفهومها الأساسي لناحية تأكيد المساواة بين المواطنين وعدم التمييز بينهم وفقاً لانتماءاتهم وإبقاء الطائفة ممراً إلزاميّاً من المواطن نحو الدولة.


لذلك، من الناحية النظريّة، الكلام عن عدم ملاءمة اتفاق الطائف لإقامة الدولة المرجوة تنقصه الإشارة إلى أن بنود الاتفاق لم تُطبّق بالكامل، لا سيّما البنود الإصلاحيّة منه وهي على قدر كبير من الأهميّة لأن من شأنها إعادة بناء الدولة وفق أسس العدالة والمساواة. طبعاً، ليس المقصود الدفاع الأعمى عن هذا الاتفاق، ففي المحصلة ليس في السياسة اتفاقات ونصوص مقدّسة لأنها مرتبطة بلحظة ولادتها والظروف التي تليها، أما موعد دفنها فلا يحدد من تعداد البنود المطبقة والبنود غير المطبقة، إنما من خلال دراسة موازين القوى التي أنتجها الاتفاق على الصعيد الداخلي وأدوار القوى الخارجيّة المؤثرة بالساحة الداخليّة وأهدافها في حقبات متتالية.


إن الاختلال الراهن في موازين القوى اللبنانيّة ليس مرتبطاً باتفاق الطائف أو باستنسابيّة تطبيقه، بقدر ما هو مرتبط بتحوّلات المنطقة وانكفاء لاعبين مقابل تقدّم سواهم. من المؤسف جداً أن يرتكز تقييم الوضع الداخلي اللبناني بصورة أساسيّة إلى المعايير الخارجيّة والإقليميّة، ولكن لطالما كان الأمر كذلك ليس فقط في لبنان بل في كل الدول الضعيفة التي تعاني حكوماتها من تدخلات خارجيّة شرسة. أما العنصر الأكثر تعقيداً فهو أن هذه التدخلات تتم من خلال أذرع محليّة ترتبط بالأجندات الخارجيّة وتنفّذ سياساتها من دون مراعاة الأوضاع المحليّة لدولها. انظروا إلى العراق أيضاً!


إنما بعيداً عن كل مكونات المقاربات الدستوريّة والنظريّة، يبقى السؤال: إلى أي مدى سيتمكن لبنان من التعويل على تغيير الصيغة السياسيّة الراهنة في ظل اختلال موازين القوى المحلية وبالتالي اجتراح عقد سياسي واجتماعي جديد يعكس الرغبة الحقيقية لمختلف مكونات المجتمع اللبناني؟ أليست المطالبة المتجددة، الآخذة في الاتساع، بالفيدراليّة والتقسيم مثيرة للقلق حقاً؟ أوليست أحد أشكال العودة إلى الكانتونات والغيتوات الطائفيّة والمذهبيّة وتكريسها بشكل نهائي؟ ثم ألا تستفيد من هذا الطرح كل القوى الخارجيّة التي لطالما امتلكت حقداً تاريخيّاً ضد لبنان بتنوعه وتعدديته وديمقراطيته (على هشاشتها)؟


إن الدعوات المتلاحقة لإقامة مؤتمر تأسيسي جديد في ظل الانقسام الداخلي الحاد والصراع الإقليمي الأكثر حدة، تطرح مخاوف جديّة عما يُرسم للبنان في المرحلة المقبلة، بعدما وصلت خطة الإطباق على مفاصله السياسيّة والاقتصاديّة إلى مراحل متقدّمة. لبنان إلى أين؟ المنطقة إلى أين؟ السؤال، للأسف، يجيب عنه اللاعبون من خارج المنطقة، لأن اللاعبين في الداخل أولوياتهم في أماكن أخرى!