Advertise here

"سماوات" إسترداد الأموال المنهوبة مغطاة بـ "قباوات" المحسوبيات

15 أيلول 2020 07:08:08

يتدنّى مستوى الحوكمة والشفافية في لبنان عن أكثر الدول فساداً في العالم. ففي الوقت الذي تنجح فيه الديموقراطيات الحديثة في دول مثل كينيا ونيجيريا بعقد اتفاقيات لاسترداد أصولها المنهوبة من الخارج، يتخبط لبنان بهيئاته وقوانينه الرادعة عن الفساد. فبين قانون الاثراء غير المشروع ورفع السرية المصرفية وتمتع هيئة التحقيق الخاصة بصلاحيات استثنائية، وبين العمل على سن قوانين جديدة ضاعت "طاسة" الاموال المنهوبة.

 

بعد 36 يوماً على اندلاع ثورة تشرين دعا رئيس المجلس النيابي نبيه بري كلاً من لجنة "المال والموازنة" و"الادارة والعدل"، إلى جلسة مشتركة في إطار مكافحة الفساد. بعدها بنحو 5 أشهر صرّح رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب بان "مسألة استعادة الاموال المنهوبة سوف تحظى بحيز أساسي في عمل الحكومة لتعويض اللبنانيين عن الجرائم التي اقترفت بحقهم". وباستعادة سريعة لشريط التصاريح والمقابلات الصحافية العلنية للقادة والسياسيين، نراهم يجاهرون بمطلب استعادة الاموال المنهوبة، ويتقدمون في طروحاتهم على المتظاهرين وقادة الحراك المدني. أما في الخفاء فيستمر وضع "عصي" قوانين السرية المصرفية والحصانات الوظيفية والطائفية في "دواليب" المباشرة في هذه العملية الاصلاحية.

لا نقص في القوانين

الأموال المنهوبة منذ مطلع التسعينات قدّرت بحسب تقرير لصحيفة الـ "واشنطن بوست" نقلاً عن وزارة الخزانة الاميركية بـ 800 مليار دولار. و90 في المئة ممن تولوا سدة المسؤولية في الدولة متورطون في جريمة سرقة المال العام، بحسب تقارير ودراسات أجنبية. ومع هذا لم ينجح احد لغاية الساعة في رفع الحرم عن فاسد أو استرجاع "مليم" واحد. أما السبب فليس نقصاً في القوانين كما يدعون، بل تجاهلها من جهة، وعدم تطبيق لمعاهدة مكافحة الفساد مع الامم المتحدة UNCAC التي وقع عليها لبنان في العام 2008 من جهة اخرى؛ وهي "المعاهدة التي تتعلق باسترداد الاموال المنهوبة بين أكثر من 186 دولة ولها قوة القوانين النافذة في لبنان أو حتى أقوى"، بحسب حديث صحافي للمدعي العام السابق للتمييز القاضي حاتم ماضي. وبالتالي فانه من الممكن برأيه "الاستعاضة بهذه المعاهدة عن غياب القوانين". فهي تنص صراحة على إرجاع الأصول والتصرف فيها، وفقاً لآلية تعاون ملزمة للدول الأطراف.

 

تعقيدات الاسترداد

على المقلب الآخر يرى القاضي بيتر جرمانوس في حديث خاص لـ "نداء الوطن" ان إسترداد الاموال المنهوبة يتطلب في البداية "التأكد من انه منهوب. وثانياً ملاحقته في الخارج. إنما المشكلة تكمن في ان هذه التحويلات المالية أو الاستثمارت المشكوك فيها قد تكون موزعة على مساحة الكرة الارضية، وتتطلب التعامل مع أنظمة وقوانين مختلفة، ما يصعب عملية استردادها". وفي جميع الاحوال فان هذه العملية تتطلب بحسب جرمانوس "الكثير من الوقت، وقد لا يسترد البلد إلا جزءاً قليلاً منها. وهذا ما يمكن الاستدلال عليه من تجارب دول أفريقيا التي تشهد كل فترة انقلابات وتغيرات سياسية، تعقبها عمليات مطالبة باسترداد الاموال المنهوبة. وعلى الرغم من ان المتهم او المُطالب في هذه الدول يكون عادة شخصاً واحداً، وهو الحاكم أو الزعيم، فان هذه الاجراءات تأخذ الكثير من الوقت، ولا يسترد من الاموال إلا القليل".

لكن هل هذا يعني انه لا أمل باسترداد الاموال المنهوبة في لبنان؟

يجيب جرمانوس بان "الكلام العام عادة يكون أسهل من الواقع. فيما الحل المنطقي يتمثل بالتعميم 154 الصادر أخيراً عن مصرف لبنان، والذي يطلب من كل من حوّل مبلغاً يفوق 500 الف دولار الى الخارج من بعد 17 تشرين الاول، إرجاع 15 في المئة إذا كان مودعاً عادياً، و30 في المئة إذا كان سياسياً أو مصرفياً. وذلك تحت طائلة فتح تحقيق بمصادر أموالهم". هذا الاجراء يصفه جرمانوس بـ "الحل العملي الوحيد الذي جرى من بعد 17 تشرين الاول".

 

"الحق العام" بالاموال المنهوبة 


بغض النظر عن الانتقادات الكبيرة التي طالت التعميم 154 والتي كان آخرها من "بنك أوف أميركا" الذي تناوله بشكل تفصيلي، مؤكداً على عدم صوابيته وإلحاقه الأذية بالقطاع المصرفي اللبناني. فان الاكتفاء بهذا التعميم لتأمين "تمويل محدد يؤمن متطلبات اعادة هيكلة المصارف" قد يضيّع هدف "المحاسبة" من وراء استرداد الاموال المنهوبة. فنهب الاموال بحسب أحد الخبراء هو جرم جزائي يعاقب عليه القانون. واسترداد ما سرق من اموال الدولة وتوزيعها على دافعي الضرائب، من خلال توظيف الاموال المستعادة في هيئات مشاريع أو صناديق، هو حق عام يعود لكل مواطن أفضلية الاستفادة منه". اما خطورة مبادلة الاموال المنهوبة بالتعميم 154 فهي "الايهام بان مصادر الاموال التي حولت بعد النصف الثاني من العام 2017 غير شرعية، في حين انها دخلت على المصارف اللبنانية وتحققت من صحتها، ومن المفروض انها لم تحولها إلا بعد التأكد من أن لا شبهات عليها تتعلق بتبييض الاموال أو السرقة او الاتجار بالممنوعات. وبحسب المصدر فان "هذه الاموال قد تكون نظيفة أكثر من الاموال التي اجتذبتها الفوائد المرتفعة التي كانت تدفع لتمويل عجز الدولة والهندسات المالية".

يجمع الحقوقيون على ان المطلوب في لبنان أمر واحد، يتلخص في وجود قضاء حر ونزيه. مطلب يتقاطع مع خريطة الطريق الفرنسية وشروط الدول المانحة. إذ انه من دون قضاء قادر ومجرد من الحسابات الطائفية والسياسية لا يمكن الاستمرار باجراء إصلاحي واحد مهما تطورت القوانين. فيما تتيح استقلالية القضاء الدخول إلى مروحة واسعة من الاجراءات والقرارات التي تفضي في النهاية إلى تعميق الاصلاح واسترجاع الاموال المنهوبة... ولو بعد حين.