في الذكرى الـ 42 لغياب الإمام السيّد موسى الصدر، فإنما نستذكر تلك الشخصية الفذّة التي حلّت مع أولئك العظماء الذين أضاؤوا في سماء المعرفة مشاعل نورٍ في مختلف حقول الوطنية الحقّة، والاجتماعية، والإنسانية، بذلاً وتضحيةً، ومواقف مشرّفة.
ولئن قال الإمام المقدام يوماً بأن، "طاقاتي الاجتماعية التي تتلّخص في ثقة الناس، والتي هي من عناية اللَّه، ليست ملكي، ولا يحقّ لي أن أتصرَّف بها إلّا في صالح صاحبها الأصيل، وهو اللَّه والدّين". فكأنما كان شغله الشاغل هو اللّه سبحانه وتعالى، فهو الهدف الأسمى والأنقى للجهاد، والحكمة في مراضاته، حاملاً على كتفيه همّين كبيرين: همّ المحرومين ولبنان، وهمّ فلسطين. وقد نالت تلك القضية الحيّز المحوري في وجدان الإمام واهتماماته، فاستوطن عقله القدس الشريف.
لقد شكّل الإمام الصدر في عصره ظاهرةً استثنائيةً رائدةً على كل مستويات جوانب الحياة، فوجد الناس فيه شخصيةً عابرةً للطوائف والمذاهب والمناطق، وإماماً في الوحدة الوطنية والتعايش، ورسولاً إيمانياً، وفكرياً، وفقهياً، وداعيةَ محبةٍ وسلام، ووحدة الحضارات والأديان، ومصدر إيحاءٍ واستلھامٍ متجددٍ للحاضر، وللمستقبل الذي وجد فيه استحالة العيش مع عدّوٍ غاصبٍ للعرب والمسلمين. فأطلق باكراً مشروع مقاومةٍ متلاقياً بذلك مع "معلمٍ" درج نهج إرثه على السيادة لوطنٍ مستقلٍ، ورافضاً كل أشكال القهر والسجون المنوّعة العديدة، واسمه كمال جنبلاط، الذي كان أول مَن أطلق مقاومةً لبنانية ضد الاحتلال من ذاك المنزل، قرب فرن الحطب في بيروت، نصرةً لقضية فلسطين التي حملها الإمام، كما المعلّم، في قلبه. ودعم "ثورة الحجارة" مواجهةً لأخطر مشروع تتعرّض له الأمة، وكان إلى جانبه وقتذاك كبارٌ من لبنان ممن رفضوا كل أشكال الغطرسة الصهيونية تهجيراً وتشريداً، شهادةً وفداء، وسيفاً مسلّطاً في مقارعة العدو لحرقه المساجد، واستباحته المقدّسات.
فرؤية الإمام السيّد الثاقبة التمعت منذ تلك البدايات السابقة على العدوان الإسرائيلي المباشر على لبنان، ووجود المقاومة اللبنانية التي لم تكن أصلاً البديل للمقاومة الفلسطينية، باعتبار المشروع الصھيوني يطول بأطماعه ومخاطره لبنان وفلسطين معاً.
وكما خاطب اللبنانيين عام 1970، بالقول، "وطنكم في خطر عظيمٍ وداھمٍ أيھا اللبنانيون، وإنه من الأھداف الأولية للصھيونية العالمية، وھو داخلٌ في أطماعھا العاجلة". وكذلك ناشد فلسطين إلى توحيد الكلمة والصف بوجه ما أسماه "المرض السرطاني"، من أجل قدسِ القِبلة وملتقى القيَم، وتجسيد الوحدة، ومعراج الرسالة.
فلكل ذلك كان الإمام يعتقد أن قضية فلسطين يجب أن تبقى حاضرةً في ذهن الأمّتين الإسلامية والعربية، ووجوب السعى كي تبقى إسرائيل عدوةً، وبذلك تصبح قضية فلسطين قضية متقدّمة على أي عنوانٍ مذهبيٍ، أو طائفيٍ، في العالَمَين العربي والإسلامي اللذين قد يصبحا في أي وقتٍ مادةً للانفجار والتقاتل.
وأمام ما نشهده اليوم من أمورٍ عدة، نقتنع أكثر فأكثر بتلك الرؤية المتبصّرة الثاقبة، أكان ذلك من خلال التوترات المذهبية المتفشية في العالَمَين العربي والإسلامي، أو في تسابق بعض الدول طلباً للسلام، وهما الأمران الأكثر تأثيراً على رؤية الإمام لأجل كل إنسانٍ عربيٍ ومسلمٍ وحرٍ في العالم، واللّذان خطّط لهما الاحتلال الإسرائيلي ونفّذهما. فغُيِّبَ الإمام المدافع عن أوطانٍ باتت متهالكةً، وأمماً متربصةً ببعضها بعضاً، وشعوباً متنافرة، وغابت معه الكثير من جماليات صفحات النضال والجهاد الحقيقيين، إضافةً إلى سقوط حصنٍ منيعٍ للحروب بين الأخوة وأبناء الشعب الواحد.