منذ شهرٍ من اليوم أودى انفجار بيروت بحياة ما يقارب 200 شخص، لكن سفك الدماء هذا لم يهزّ ضمير السلطة اللبنانية، أو كيانها، كما سبق أن اعتقدنا.
الجشع مستمرٌ، وجملة "ما خلّونا" استمرت. إنما ما حصل أمس لم نتوقّعه، إذ اتخذت السلطة قرار وقف البحث عن روحٍ قابعةٍ تحت الأنقاض، وذلك استناداً إلى حجّتين معيبتين: الأولى، عطل في الرافعة، وعدم القدرة على تأمين أخرى؛ والثانية غياب القدرة على البحث دون التعرّض لأساسات المبنى المهدّد بالسقوط.
فعند حلول ليل الخميس، وبالرغم من اكتظاظ المنطقة، توقّفت أعمال البحث عن الروح التي استشعرها الكلب التشيلي "flash"، التابع لفرقة الإنقاذ التشيلية التي أتت على نفقتها، وطلبت منذ أكثر من 3 أسابيع تصريحاً للقيام بأعمال البحث، لكنّ الدولة الفاشلة لم تصدر التصريح إلّا قبل بضعة أيام.
ما حصل ليل الخميس أعاد مشهدية أولى ليلتين بعد الانفجار حينما توقفت أعمال البحث عن المنكوبين لأن ما من كهرباء للإضاءة، في بلدٍ يناهز فيه عجز الكهرباء 50 مليارَ دولار!
الإهمال نفسه قاد الدولة من جديد، لكنّ العامل الخارجي كان أقوى هذه المرة واستطاع أن يلعب دوراً جوهرياً، ويجبر الدولة على عدم التطنيش، أو التّهرب، من أدنى واجباتها تجاه الشعب.
عادت أعمال البحث حوالي الثالثة فجراً برافعةٍ أمّنها الشعب، وحوالي الرابعة أتت رافعةٌ ثانية، وتطورت أعمال البحث مع تقدم الساعات، ودخول فِرقٍ عديدة لكلٍ منها مهمة.
ارتكبت الدولة اللبنانية جريمتين ليلة أمس. الأولى بحق الإنسانية بعد إيقافها أعمال البحث رغم احتمالية وجود حيٍّ تحت الركام. أما الجريمة الثانية فهي بحقّ نفسها، حينما آثرت الغياب لتعود تحت الضغط!
يبدو أن دولة "لبنان الأسير" التي استباحها من هبّ ودبّ من 1920 إلى اليوم، اختارت بعد زيارة ماكرون الأخيرة، الاعتكاف كلياً عن اتّخاذ أي قرار ولو كان إنسانياً محضاً، مكتفيةً بانتظار الإيعاز الأجنبي، فلولا إصرار الفريق التشيلي المرافق مع غضب الشعب، لَمَا فُتحت المنطقة فجراً، وسُمح لأعمال البحث بالعودة، وليتأكّد لنا أن الحياء وحده محرّكٌ أساسيٌ لسلطة التقاعس واللّا- مبالاة.
بدت بيروت فجر اليوم، ولا تزال، كالأم المفجوعة التي تترقّب نجاة صغيرها من مجزرةٍ طالت كل أفراد العائلة، إلّا ذاك النبض المختبئ تحت الركام.