Advertise here

هل يدخل لبنان زمن التغيير مطلع المئوية الثانية؟

28 آب 2020 20:50:41

بعد تأخيرٍ تجاوز الأسبوعين، وفي انتهاكٍ واضحٍ للدستور اللبناني، لا سيّما المادة 53 منه، البند الثاني، وتحت حجة صلاحيات رئيس الجمهورية وشعار "المشاورات قبل الاستشارات، والتأليف قبل التكليف"، حدّد رئيس الجمهورية موعد الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيسٍ جديدٍ للحكومة يوم الاثنين المقبل في 31 آب، والتي تنتهي قبل ساعاتٍ من وصول الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى لبنان في زيارةٍ هي الثانية له خلال شهر بعد انفجار مرفأ بيروت الكارثي، وذلك للاحتفال بالمئوية الأولى للبنان الكبير، والذي أعلن تكوينه الجنرال غورو، في الأول من أيلول عام 1920، مفتتحاً عهد الانتداب الفرنسي للبنان.

يأتي تحديد موعد الاستشارات، على أهميته، نتيجة ضغوطٍ فرنسية واضحة وردت على لسان وزير الخارجية، جان إيف لودريان، الذي قال إن، "لبنان مهددٌ بوجوده"، وبعد فشل محاولة العهد استنساخ تجربة تشكيل حكومةٍ مماثلةٍ لحكومة حسان دياب المستقيلة.

والعهد وداعموه هم في حالة إنكارٍ للواقع ويحاولون الهروب إلى الأمام، ويصمّون آذانهم عن سماع أصوات الناس، ويتصرفون وكأن لبنان في حالةٍ من الترف السياسي، وأن لا أزمة ثقة بين أكثر من نصف اللبنانيين وبين السلطة السياسية، ولا انهياراً اقتصادياً ومالياً، ولا كارثة تدمير نصف بيروت جرّاء انفجار المرفأ في 4 آب، الذي هزّ الضمير العالمي. يحدث ذلك في الوقت الذي لم تتمكن فيه السلطة الأمنية والقضائية من تقديم رؤيةٍ متكاملةٍ حول الانفجار، وأسباب وقوعه، وعن المسؤولين عن استقدام مادة نيترات الأمونيوم، والمسؤولين عن قرار إبقائها على أرض المرفأ طيلة السنوات الست الماضية.

فمنذ انفجار الغضب الشعبي بوجه السلطة السياسية في 17 تشرين الأول الماضي، بدأ ميزان القوى الداخلي يتشكّل بطريقةٍ جديدة لا تتآلف والسياق السياسي المعهود في لبنان منذ إقرار اتفاق الطائف، وذلك لأن الغضب العارم على السلوك السياسي المتحكّم بالسلطة السياسية منذ عام 2008، أوصل البلاد إلى المأزق الحالي بعد فشله في تحقيق الإصلاحات التي كان يدّعي المطالبة بها، وفشله في معالجة القضايا الحياتية والإنسانية الملحّة لا سيّما أزمة الكهرباء. هذا ما عدّل المزاج الشعبي، وأخرج الجمهور الأوسع من تحت مظلة الاحتواء التقليدي المعتمدة لدى الأحزاب، والطوائف، والقوى السياسية، المشاركة في صناعة الحكومات المتعاقبة، وحيث برز الشارع الشعبي لاعباً جديداً في مواجهة الجميع وله شعاراته، وأدواته، وتأثيره، في عمق المجتمع اللبناني، لا سيّما الجمهور الذي انكفأ بعد تفسّخ حركة 14 آذار، وتمترست قواه الحزبية خلف مصالحها بعد اتّفاق الدوحة.

لقد حقّق الحراك الشعبي خرقاً ملحوظاً في جدار الانقسامات الطائفية والمذهبية، والجهوية، لكنه لم يتمكّن من بلورة رؤيةٍ متكاملةٍ لمشروعٍ وطنيٍ إنقاذي، يركن إليه الجمع العام، وتتآلف خلفه القوى والتكتلات المدنية الجديدة، لا بل فإن تراجعه في لحظة الصعود، أتاح لقوى الممانعة فرصة اختطاف اللحظة حيث نجح في تشكيل حكومةٍ جديدةٍ من مجموعة مستشارين مرتهنة له، وتلبي شعار التخصّصية والكفاءة؛ لا بل سمح هذا التراجع لتلك القوى المتربّصة بلبنان بالانقضاض على الشارع وتوجيه شعاراته نحو عناوين محددة، ومؤسّساتٍ معيّنة قام عليها الاقتصاد اللبناني، وما زال، كالمصارف التجارية والمصرف المركزي.

بعد انفجار مرفأ بيروت، والكارثة الإنسانية التي أصابت العاصمة، عاد الحراك الشعبي، لا سيّما الشبابي منه ليحضر بمختلف أطيافه ومناطقه، متضامناً مع أهله، رافعاً الضرر عن بيروت وأهلها، ومبادراً إلى العمل في تنظيف المباني والطرقات، ومشاركاً في مسح الأضرار، وترميم ما يمكن ترميمه، وتوفير الدعم النفسي والإنساني والمعنوي للمتضررين، وتوفير الاحتياجات الأساسية للمنكوبين، وتنظيم أعمال الإغاثة، كما شكّل عنصراً مساعداً في توزيع المساعدات للجميع.

فالحراك الشعبي التضامني بأشكاله المختلفة، لم يملأ فقط فراغ الغياب الحكومي والرسمي للمؤسّسات، بل شكّل مظلة أمانٍ، وعنصر ثقةٍ لدى المجتمع الدولي ومؤسّساته الإغاثية، وبالتالي بات من الواجب الاستماع إلى صوت هذا النموذج الجديد، والأخذ بملاحظاته وآرائه، وإشراكه في تكوين السلطة.

ثمة من يبالغ في تقدير حجم التغيير الذي أحدثه الحراك الشعبي في 17 تشرين، والحراك التضامني بعد 4 آب، ويُسقط رغباته على حساباتٍ مصلحية. وثمة خلطاً بين المواقف القِيَميّة الرائعة التي أطلقها الشباب اللبناني في ميادين مختلفة، وبين اعتبار تلك المواقف بمثابة برنامجٍ سياسيٍ، أو خريطةَ طريقٍ لدولة لبنان الجديد. هذا البعض الذي يستسهل التغيير من خلال الشعارات دون الأخذ بعين الاعتبار مؤثّرات الواقع اللبناني، يطلق بعض الشعارات التي تُسهم بإعادة إنتاج السلطة على يد الجناح الأكثر عدائية وصدامية لمطالب التغيير التي يريدها اللبنانيون، ويحاول إعادة تعويم نفسه تحت مسمّى الأكثرية النيابية، دون الأخذ بعين الاعتبار المتغيّر الأساسي في المزاج الشعبي، والذي لا بد من قياس مكانته من خلال انتخاباتٍ نيابية مبكرة وفق قانونٍ انتخابيٍ جديد خارج القيد الطائفي.

لذلك لا بد من الولوج إلى حكومةٍ انتقاليةٍ إنقاذيةٍ ذات صلاحيات استثنائية، أطلق عليها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، تسمية "حكومة طوارئ"، وحدّد مهامها في نقاطٍ ثلاث أساسية: إنقاذٌ اقتصادي وإعادة إعمار بيروت؛ وإصلاحات سياسية وإدارية؛ وانتخابات نيابية مبكرة بعد إقرار قانونٍ جديد للانتخابات. 

إن هذه العناوين التي تتلاقى مع الورقة الإصلاحية التي قدّمتها الرئاسة الفرنسية لإخراج لبنان من أزمته، تشكّل خارطة طريق إنقاذية تنسجم والمتغيّرات التي طرأت على ميزان القوى الداخلي، خاصةً وأن علامات العجز بدأت تظهر في أداء القوى التي أنتجت حكومة حسان دياب، وفشلت في الحفاظ عليها طيلة الأشهر الأكثر قسوة على حياة اللبنانيين اقتصادياً، واجتماعياً، وسياسياً، وأخيراً أمنياً، والتي كان أخرها كارثة بيروت التي استنفرت المجتمع الدولي والعربي لنجدة الشعب اللبناني.

على الرغم من كل ذلك فإن قوى الممانعة مازالت تدير ظهرها حتى اليوم لمأساة الناس، وتدير ظهرها لنتائج قرار المحكمة الدولية الذي سيرتّب تداعيات دولية إضافية على لبنان. فالهمُّ الرئيسي لتلك القوى هو البقاء في السلطة، والمناورة مع المجتمع الدولي لجني المكاسب، واستهلاك الوقت، وتقديم القليل من المطالب المشروعة للمجتمع اللبناني من إصلاحاتٍ جذرية في النظام، والاقتصاد، والخدمات الحياتية الضرورية، مثل الكهرباء. وتلك القوى تعتقد أنها غير معنيّة بإعادة النظر في سياساتها، وأن المسألة تنتهي عند ضبط الإعلام المتفلّت والمنتقد والمنظّر، والذي يعمل، كما تتّهمه وفق أجندةٍ خارجية. وهذا السلوك ليس سلوكاً عبثياً، إنما هو قرارٌ استراتيجي اتّخذته طهران، وأطلقت عليه شعار "الصبر الاستراتيجي" إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، حيث يمكن لطهران بعد ذلك تقدير طبيعة المفاوضات المطلوبة مع الإدارة الأميركية الجديدة، وحيث أن الموقف الأوروبي الأخير في مجلس الأمن حول استيراد وتصدير الأسلحة إلى إيران يخدم سياسة طهران وتوجّهاتها.

لكن السياسة الإيرانية تلك تدفع بالمزاج الداخلي اللبناني نحو تغييرٍ متصاعدٍ في ميزان القوى. فإذا كانت كارثة بيروت من جهة، وقرارات المحكمة الدولية من جهة أخرى، لا تعني طهران وحلفاؤها، فإن الاستمرار في التسلّط، والاستعلاء، وإنكار الواقع، يستتبعه غضبٌ شعبي دفين، يسرع في تحوّل ميزان القوى نحو تغييرٍ كبيرٍ قادمٍ تحت مظلة دولية استكملت ربط أوتادها على الأرض اللبنانية.