لا يُمكن تصنيف ما يجري بين الولايات المتحدة الأميركية والصين بالتنافس العادي بين دولتين كبيرتين لهما مصالح جيو- سياسية وتجارية متضاربة، ذلك أن ما يحصل ينمُّ عن توجّهات استراتيجية جديدة لكلا الدولتين، ولأن منسوب التوتر زاد عن الوتيرة المعروفة، ولأن عناوين الصراع تبدَّلت على شاكلةٍ واسعة، وبدأت تشمل ملفات لم تكن في السابق من العناوين الخلافية الرئيسية.
فبعد التعارض في التعاطي مع الملف النووي لكوريا الشمالية، والخلاف على مقاربة ملف العقوبات على إيران، برزت التباينات الواسعة حول هونغ كونغ، ومن ثمّ حول تصنيف مياه الممرات المائية في بحر الصين الجنوبي، وملكية بعض الجزر فيه، كما تفاقمت مؤخراً التجاذبات حول تايوان، إلى أن وصل الاختلاف على الملف التجاري إلى الواجهة.
وتجاوزت الإجراءات العقابية المتبادلة بين البلدين حدود التنافس الطبيعي، لتصبح عناوين بارزة لخلافٍ واسع، اختلطت فيه المصالح المالية مع التوجّهات العقائدية، وبينهما اندفاعاتٌ ذات أبعاد انتخابية تحمل شعارات تتعلَّق بالأمن القومي الأميركي من جهة، وبالحصار لشركات التكنولوجيا المتقدمة للصين من جهة ثانية.
ومن أبرز معالم التجاذبات غير العادية التي تحصل بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، توقيع الرئيس دونالد ترامب على مرسومٍ يعطي منصّتي "تيك توك" و"دي تشات". والشركتان الصينيّتان مهلة 45 يوماً لتصفية أعمالهما في الولايات المتحدة. وعلَّل القرار أسباب الإجراءات لكون المنصتان المتطورتان قادرتين على اختراق الأمن القومي الأميركي من خلال تجميع معلومات شخصية عن المشاركين في المنصّتين، والتي يُمكن أن تصل إلى الأجهزة الأمنية الصينية. وكان سبق هذا القرار للرئيس ترامب إقرار الكونغرس لقانونٍ منع بموجبه كل أعضائه، والعاملين في الدوائرالحكومية كافة، من استخدام المنصّتين المذكورتين، لأن التواصل معهما قد يؤدي إلى وصول معلومات حسّاسة عن عمل السلطات الأميركية للصين.
الصين اعتبرت الإجراءات الأميركية بمثابة القمع والتلاعب اللذين يتجاوزان قواعد التبادل التجاري الدولية لصالح أنانياتٍ ذاتية، وهو ترهيبٌ تجاري هدفه محاصرة الشركات الصينية، برغم أن شركة "هواوي" للهواتف الذكية الصينية، وشركة "بايتدانس" التي تملك منصة "تيك توك" التزمتا بكل الشروط التي وضعتها الإدارة الأميركية على عملهما، بما في ذلك تعيين أشخاص أميركيين في غالبية المواقع الإدارية للشركتين في الوكالات التي تتولَّى تسويق منتوجاتهما في الولايات المتحدة. كما أن منصّتي "تيك توك " و"دي تشات" فاوضتا شركة مايكروسوفت على استلام أعمال المنصّتين في الولايات المتحدة الأميركية، وفي الدول التي تعمل فيهما المنصّتان خارج الصين. لكن الدوائر التجارية الأميركية تعتبر أن شركة "هواوي" تتحايل للحصول على رقائق إلكترونية مُصنّعة في الولايات المتحدة الأميركية، أو في دولٍ حليفة لها.
الرئيس دونالد ترامب قرّر في 18 أغسطس 2020، توقيف المفاوضات التجارية التي كانت جاريةً بين البلدين بشكل نهائي، معلّلاً أسباب القرار بعدم اتّخاذ الصين لأي تدابير سريعة كان يمكن أن تحدّ من انتشار جائحة كورونا قبل انتقالها إلى خارج مدينة ووهان وتفشّيها في العالم. والمباحثات التي تمَّ توقيفها كانت تناقش عناوين خلافية، مثل الملكية الفكرية، ومنع التجسّس الصناعي، والقيود التي يمكن وضعها على شركات الهاتف الخليوي الذكية، لا سيّما على شركة هواوي الصينية. ومما لا شك فيه أن هذا القرار الأميركي سيكون له تأثيرات سلبية واسعة على العلاقات المتوترة أصلاً بين البلدين الكبيرين واللدودين. فملف التبادل التجاري بينهما يُعتبر من أكبر الملفات التجارية على المستوى العالمي، بحيث تتجاوز قيمة الواردات الأميركية من الصين 540 مليار دولار سنوياً، بينما تبلغ واردات الصين من الولايات المتحدة 330 مليار دولار، وفق إحصائية العام 2019.
ومن القضايا الخلافية الكبيرة التي تفاقمت بين البلدين ملف تايوان، حيث أبرمت واشنطن مؤخراً صفقةً دفاعيةً جديدة مع تايوان، تحصل بموجبها الأخيرة على 66 طائرة حربية أميركية متطورة من نوع أف- 16، ومعها صواريخ دفاع جوي متطورة. ومن المؤكد أن تلك الصفقة ستثير غضب الصين التي تحاول استعادة نفوذها على الجزيرة.
هل يعود جزءٌ أساسي من التوتر المتفاقم بين الصين والولايات المتحدة إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية الحامية بين ترامب ومنافسِه الديمقراطي بايدن؟ أم أن منحى التوتر الذي تسير فيه العلاقات بين البلدين نابعٌ من استراتيجية أميركية بعيدة المدى، تحاول من خلالها واشنطن الحدّ من النمو المتسارع للصين في المجالات التقنية، والصناعية، وحتى العسكرية؟ سؤالان ينتظران الإجابة بعد إقفال صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة الأميركية مساء 3 نوفمبر القادم.
(*) تنشر بالتزامن مع الخليج الإماراتية