كشف الحكم الذي أصدرته المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في ملف إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري؛ صورة الأجواء الدولية الجديدة، وهي تُشبه حالة تاسيسية لإدارة جديدة للملف اللبناني، بحيث راعت صياغة الحكم تفاهمات سابقة بين المؤثرين الدوليين على الملف، لا سيما بين فرنسا وروسيا، الأولى كممثلة لوجهة النظر الغربية وكصديقة للبنان، والثانية لحضورها اللبناني الفاعل وكراعية لمصالح حلفائها في سوريا وعلى درجة أقل في ايران. وكان واضحاً أن ما تُليَّ من قبل القضاة الأربعة في 18 آب (أغسطس)، صيغ بديبلوماسية رفيعة المستوى تقيدت بمبادئ الحيادية التي تعتمدها المحاكم الدولية، وبالحرفية القضائية التي أوضحت كل جوانب الملف من الناحية الجزائية، ومن ناحية المسؤولية السياسية عن "المؤامرة" كما أسمتها في مندرجات الحكم.
وفي القراءة السياسية للحدث القانوني الدولي؛ أنه أبرز صورة واضحة عن تعارض المشاريع الأقليمية والدولية التي تتحرَّك في المنطقة، ولبنان أساس في حلقة هذه المشاريع، وأوضح أن التنسيق بين مرجعية منفذي الجريمة وبين سوريا وايران قديم العهد، والجهات الثلاث يعتبرون أن ثمن عملية الإغتيال الباهظة أقل من قيمة نتائجها التي تؤدي الى ضرب التوجهات الوطنية والإستقلالية والعربية التي كان يمثلها الشهيد رفيق الحريري (كما جاء في التحقيقات المُعلنة حرفياً). لكن ما حصل بعد عملية الإغتيال؛ أن سوريا دفعت ثمناً فورياً بإنسحابها من لبنان التي كانت تتحكَّم بكل مفاصل حياته السياسية - وفق ما جاء في متن الحكم المُعلن- بينما توسَّع نفوذ ايران وحليفها حزب الله منذ ذلك التاريخ في بلد الأرز. فهل كان ذلك صدفة، او انزلاقاً للنظام السوري؟ ذلك لا جواب عندنا عليه. يبقى الإشارة الى أن الحكم لم يتحدث بكل شيء، ولكنه فتح الباب لكي يتحدث الرأي العام بكل شيء، او أنه أكد ما كان يقوله الرأي العام على أقل تقدير.
وعلى الضفة الأخرى من آب اللبناني اللَّهاب؛ فقد كشفت الكارثة التي وقعت في بيروت مساء 4 آب 2020 مجموعة من المُعطيات الإستراتيجية، وهي أضاءت على ثوابت عدة، منها ثوابت قديمة ومنها متجدِدة. وتمَّ التأكيد لمناسبة لملمة الجراح البليغة التي أصابت الشعب اللبناني، أن إستقلال بلاد الأرز ما زال حاجة دولية، وفي إحترام خصوصية لبنان مصلحة عربية، وهو ضرورة للتوازن السياسي الإقليمي والدولي، كما أنه حاضنة إنسانية وجيوسياسية للنازحين من العدوان الإسرائيلي من جهة، وللهاربين من الجحيم في سوريا، وربما لجزء يسير من المقهورين والمضطهدين في العالم من جهة ثانية.
المعطيات المتوافرة تؤكد أن الزلزال الأمني المُدمر الذي أصاب مرفأ بيروت ووسط المدينة، كان بمثابة قطرة الماء التي أفاضت الكأس، وأخرجت المارد الصابر من عنق الزجاجة، وأنتجت زلزالاً سياسياً في الداخل وفي الخارج، تجمعت قواه باتجاه رفض إستمرار المعادلة السياسية القائمة في لبنان، والتي إستندت على غلبة محور الممانعة الذي تصرَّف كمنتصر منذ العام 2015، بعد التوقيع على معاهدة 5 + 1 مع إيران (أي الدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي إضافة الى المانيا) كما إستفاد المحور ايضاً من التساهل الأميركي و"الإسرائيلي" بعد أن فرض على سوريا تسليم سلاحها الكيميائي عام 2014 مقابل بقاء النظام.
وإدارة الملف اللبناني من خلال فريق محلي يتناغم مع مصالح المحور المذكور، فرضت تسوية بقوة التعطيل، وجاءت بالشريك الجديد لمحور الممانعة– أي العماد ميشال عون – رئيساً للجمهورية نهاية أكتوبر 2016، بعد فترة فراغ رئاسي إستمرَّت أكثر من سنتين ونصف السنة، من دون أن يتحرك المجتمع الدولي، ولا الجامعة العربية بالفاعلية الكافية لمنع مثل هذا التفرُّد المُمانع الذي فرض شروطه بالكامل في لبنان.
يبدو واضحاً أن هناك إدارة دولية وعربية جديدة ترعى الملف اللبناني، وقد برزت فرنسا، منسق فعلي لهذه الإدارة، وقد تأكد هذا الأمر أثناء الزيارة الشُجاعة التي قام بها الرئيس إيمانويل ماكرون الى بيروت، وكانت النيران ما زالت مشتعلة بين حطام ثاني أكبر مرفأ على المتوسط، وفي الأبنية المحيطة وسط بيروت، وأعقب هذه الزيارة حضور عربي ودولي كبير الى لبنان، ومن أبرز الحاضرين الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد ابو الغيط ووزير خارجية مصر سامح شكري ووكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل ووزير خارجية المانيا هايكو ماس، إلى كثيرين غيرهم.
إستطاع الرئيس ماكرون إقناع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالمشاركة شخصياً في المؤتمر الدولي لدعم لبنان الذي عقد عبر الفيديو في 9 آب 2020، كما شارك في المؤتمر ذاته الذي دعت اليه فرنسا، الرئيس المصري حسني عبد الفتاح السيسي ومندوبين عن روسيا والصين والمملكة العربية السعودية، إضافة الى ممثلين عن الأمم المتحدة و27 دولة أخرى. وجمع المؤتمر مبلغ 270 مليون دولار أميركي لتقديمه كمعونة فورية للبنان، وقد إشترط غالبية المانحين، تأمين هذه المساعدات مباشرةً للشعب اللبناني وللمتضررين، من دون المرور عبر أجهزة الدولة، في إشارة واضحة على عدم ثقة المجتمعين العربي والدولي بتركيبة الحكم القائمة، وللتأكيد على أن تعاطٍ مختلف قررت أن تعتمده الدول الصديقة للبنان، لا يراعي المعادلة القائمة التي تحكمت بالدولة منذ العام 2015 على أقل تقدير، والتي أدت الى إنهيار لبنان بالكامل من الناحيتين المالية والاقتصادية، كما أدت الى فوضى وفساد ربما يكونان العامل الرئيس وراء الكارثة التي حلَّت ببيروت في 4 آب.
من المؤكد أن لبنان بعد المحطات الأمنية والقضائية الوازنة، هو غير لبنان ما بعده. فحكومة اللون الواحد إستقالت، ورئيس الجمهورية يبدو في وضعية هشة داخلياً وخارجياً. وحزب الله الذي تجنَّب حتى الآن التعليق على حكم المحكمة الدولية، بدا من خلال خطاب أمينه العام وحركية مسؤوليه في حالة لا يُحسد عليها، ولجوئه الى التهديد بالحرب الأهلية عامل ضعف له، أكثر مما هو عامل قوة، خصوصاً لأن الرأي العام والتظاهرات الشعبية العارمة في 8 آب حمّلته مسؤولية عن كل ما جرى، وهو في الوقت ذاته مُتهيِّب من الإندفاعة العربية والدولية والداخلية الجديدة بإتجاه تصحيح الوضع المزري.
الإدارة الجديدة للملف اللبناني تعتمد على عناوين واضحة، وعلى مواقف حازمة. والأساس في الخطة هو الدفع بإتجاه تشكيل حكومة حياد وطوارىء تنفِّذ إصلاحاً فعلياً يؤدي الى إنقاذ الدولة، ومن مهماتها ايضاً تعطيل تأثيرات السلاح غير الشرعي على مؤسسات الدولة. وإرادة غالبية اللبنانيين- وفي مقدمتهم معظم المرجعيات الدينية المسيحية والإسلامية – تطالب بتحييد البلاد عن سياسة المحاور، وبالطرق الديموقراطية والسلمية، ولكن مَن يحاول تعطيل هذه المقاربة سيدفع ثمناً باهظاً، وسيُفاجأ بأن سياسة التساهل التي كانت معتمدة من الداخل ومن الخارج في السابق قد إنتهت.