في ردّه على سؤال حول المواد المتفجّرة في مرفأ بيروت، قال رئيس الجمهورية اللبنانية المنكوبة ميشال عون: "المواد صرلها 7 سنين من 2013، موجودة، عم بيقولوا انها خطرة، أنا منّي مسؤول، ما بعرف وين محطوطة، ولا بعرف درجة الخطورة.. وما إلي الصلاحية أتعاطى بالمرفأ مباشرة".
لا يُمكن لأحدٍ أن يُصدّق أنّ هذا التصريح هو لرئيسٍ أطلق على نفسه لقب "بيّ الكل"، غداة "المقتلة الكبرى" التي أصابت لبنان في الرابع من آب، جرّاء الإنفجار المهول الذي هزّ كيان الدولة ودمّر عاصمتها، وقتل وشرّد الآلاف من مواطنيها.. ولا يُمكن لأحدٍ أن يُصدّق أداء وتصريحات وفضائح باقي الموظّفين ومنهم حسّان دياب، وكأنّ ما حصل ليس أكثر من "حادثة" عابرة، او مؤامرة على إنجازاته العظيمة!
وعِوض أن تتدحرج كلّ الرؤوس المسؤولة عن هذه المقتلة، حاول ويحاول جميع أركان السلطة التنصّل من مسؤولياتهم وحماية بعضهم بعضاً.. إستقال حسّان دياب كسباً للوقت وحمايةً لعهد الأمونيوم المُتهاوي. بدوره، تهرّب عون من التحقيق الدولي، وهو مطلب أهالي الشهداء وجزء من الشارع وعدد من القوى السياسية، نحو القضاء العدلي الذي لم ينجح في حلّ أي قضية منذ سنوات. أما السيّد حسن نصرالله الذي نفى في البداية وبشكل قاطع وحاسم وجازم علاقته أو علمه بتفجير المرفأ.. عاد ليرسم في إطلالته الثانية وبالخطّ الأحمر العريض، خطّاً دفاعياً حول العهد وأركانه، مُذكّراً اللبنانيين بالخطّ الأحمر الذي رفعه بوجه الشرعية إبان معارك مخيم نهر البارد، وذلك بهدف حماية إنجازاته التي راكمها منذ تفاهم مار مخايل وصولاً الى سيطرته على الرئاسات الثلاث والأكثرية النيابية.
خريطة الطريق المُفترضة
يُجمع عدد كبير من اللبنانيين والسياسيين، باستثناء الطبقة الحاكمة طبعاً، على ما يُشبه خريطة طريق لمحاسبة المُتسبّبين بهذه الكارثة وللخروج من حالة الإنهيار الحاصلة، تبدأ بلجنة تحقيق دولية لانعدام الثقة بالدولة بمُختلف أجهزتها، وتُستكمل بتشكيل حكومة حيادية تُمهّد لإجراء إنتخابات نيابية مبكرة بهدف تمكين اللبنانيين من إعادة إنتاج سلطة قادرة على النهوض بالبلد. ثلاثة تحدّيات أساسية أمام هذا السيناريو، إذا ما كُتب له النجاح طبعاً، فالعهد ومن يقف وراءه لن يُسلّما أوراقهما بسهولة أبداً. يكمن التحدّي الأول بتشكيل حكومة جديدة، يريدها السواد الأعظم من اللبنانيين وأصدقاؤهم حيادية موثوقة قادرة على البدء في عملية الاصلاح الجدّية، بينما يريدها مرشد الجمهورية على شاكلة الحكومة المستقيلة، مع تحسين في نسلها السياسي والتمثيلي.
التحدّي الثاني عنوانه إسقاط العهد، وذلك عبر مبادرة القوى المسيحية أولاً الى رفع الغطاء عن رئيس الجمهورية ودفعه للإستقالة. فهل سيقود البطريرك الراعي هذه الخطوة التي ستُلاقي دعماً والتفافاً شعبياً ووطنياً كبيرين؟ وهل بالإمكان تجاوز الخطّ الأحمر الذي رفعه نصرالله لحماية حليفه ميشال عون، الذي شكّل له شبكة الأمان الداخلية الرئيسية بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري؟
التحدّي الثالث، يرتبط بآلية البحث عن قانون إنتخابي يؤمّن عدالة التمثيل من جهة، ويؤدّي الى إنتاج سلطة سياسية جديدة، لا أن يُعيد القوى الحالية مع "تلوينة" ثورية. فمن الصعوبة بمكان إحداث أي تغيير جدّي ومؤثّر وفق القانون الحالي. فهل من إمكانية أو رغبة حقيقية لدى الأحزاب المُمَثلة في المجلس النيابي بالوصول الى قانون يُشكّل نقلة نوعية ويُساهم في تطوير الحياة السياسية؟
ماكرون وهيل وظريف
بعيداً من الدافع الإنساني لزيارة الرئيس الفرنسي والتعاطف الكبير الذي خصّ به الشعب اللبناني المنكوب، كان لافتاً كلامه عن أهمّية تغيير المشهد السياسي في لبنان، الى جانب تشديده على وجوب البدء بالإصلاحات الفعلية كمقدّمة لفكّ الحصار. لكن طرح ماكرون تشكيل حكومة وحدة وطنية خلال لقائه السياسي في قصر الصنوبر، تمّ تفسيره وكأنّه إعادة تعويم للعهد وحبل نجاة لـ"حزب الله".
إستحضر كلام ماكرون سياسة سلفه ساركوزي، الذي ساهم بفكّ العزلة الدولية عن بشّار الأسد في العام 2008، وهو الذي حاول إقناع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتخفيف العقوبات على "حزب الله" لأنّها تؤثّر سلباً على لبنان، على حدّ قوله. توازياً، كثر الحديث عن دور فرنسي محوري في ظل الإنشغال الأميركي في الإنتخابات الرئاسية، كما عن تضارب المصالح الفرنسية - الأميركية في منطقة البحر المتوسط.
زيارة وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل أعادت التأكيد على سياسة واشنطن المُتشدّدة. فإلى جانب مُطالبتها بحكومة تلتزم بأجندة إصلاحية واسعة النطاق، قال هيل بوضوح انّه لا يمكن العودة إلى عصر كان يحدث فيه أي شيء على حدود لبنان ومرافئه، مُشدّداً على ضرورة سيطرة الدولة على المواقع الرسمية. وحتّى في الشكل، حملت زيارة هيل الكثير من الرسائل. لم يتأخّر ردّ إيران على الزحف الغربي والعربي السياسي الإغاثي والعسكري الى لبنان، فجال وزير خارجيتها محمد جواد ظريف على حلفائه بهدف تعديل المشهد، مؤكّداً على أهمية ومركزية الساحة اللبنانية في السياسة الايرانية. وما لم يقله ظريف، قاله أمين عام "حزب الله" بشكل واضح: لا للتحقيق الدولي، لا لإسقاط رئيس الجمهورية ولا للحكومة الحيادية، مُهدّداً بالحرب الأهلية إذا اقتضى الامر.
أمام هذا المشهد المُعقّد من التحشيد الدولي والتوتير السياسي والغضب الشعبي والتهديد الداخلي، هل بالإمكان تجنّب المواجهة والإتّفاق على "حكومة ما" تُخفّف من حِدّة الإنقسامات والتناقضات الداخلية والخارجية، وتُمهّد لخروج لبنان من دائرة الخطر الكبير؟