Advertise here

ما بعد انفجار مرفأ بيروت ليس كما قبله

18 آب 2020 11:14:23

 كارثة مرفأ بيروت مساء 4 آب، وتداعياتها المرعبة إنسانياً، واجتماعياً، وصحياً واقتصادياً، وسياسياً، وضعت لبنان أمام منعطفٍ سياسي وأمني خطير، ليس بفعل القوة التدميرية الكبيرة التي خلّفها الانفجار في المساحة الجغرافية التي شملها، ولا سيّما المنطقة المصنّفة أثرية، والتي تختزن المئات من المباني التاريخية التي يفوق عمرها المئة عام، بل تشمل كذلك المنطقة المكتظة سكانياً في شرق بيروت من أبناء الطبقة الوسطى وما دون، وهو ما ضاعف عدد الضحايا من شهداء، وجرحى، ومفقودين. 

هذا الانفجار الذي لم يسبق أن شهد لبنان مثيلاً له على مدى مئة عام من تكوينه، وحّد مشاعر اللبنانيين التضامنية حول الفاجعة الكبيرة، لكنّه قسّمهم بين من يطالب بتحقيقٍ دولي شفاف لعدم ثقته بنزاهة القضاء المحلي، ويريد معرفة الحقيقة الكاملة حول الأسباب المباشرة التي أدّت إلى الانفجار، وتسمية المتورطين والمسؤولين عن شراء وتخزين المواد الشديدة الانفجار في العنبر رقم 12، وأسماء المتغاضين عن ذلك على مدى ست سنوات، وبين من يعارض التحقيق الدولي خوفاً من تسيّيس المسألة وتضييع الحقائق، حيث أن وسائل الإعلام المحلية والعالمية بدأت تتناقل معلوماتٍ عن تورّط خارجي في التفجير، وعن تواجد مستودعات للأسلحة في المرفأ.

ومما لا شكّ فيه أن الانهيار الاقتصادي والنقدي الذي كان يعيشه لبنان قبل الانفجار، وفشل الحكومة المستقيلة، المدعومة من جهة سياسيةٍ تدّعي الإصلاح، في التعامل مع الكارثة الإنسانية، ومع الأزمة الاقتصادية والنقدية قبل الانفجار، وعدم مبادرتها إلى إصلاح ملف الكهرباء، ووقف الهدر المالي فيه، والذي استنزف ما يقارب نصف الدّين العام، وحمايتها للفساد المستشري في الإدارة العامة ومرافقها، وفي انغماسها في سياسة المحاصصة الحزبية، والطائفية، والعشائرية، بغطاءٍ سياسي استراتيجي مرتكز على فائض القوة، إضافةً إلى انخراطها في سياسة المحاور الإقليمية، وتحويلها لبنان إلى بلد مواجهة في الصراع الأميركي- الإيراني، قد شرّع أبواب التدخّل الخارجي في لبنان سياسياً، وأمنياً، واقتصادياً لدعم لبنان، ومنع سقوطه الكامل. وهذا ما يبرّر تقاطر المساعدات الإنسانية العاجلة إلى بيروت في اليوم التالي لانفجار المرفأ، مصحوبةً بزياراتٍ سياسية ودبلوماسية لمسؤولين دوليين، من الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، إلى مساعد وزير الخارجية الأميركي، إلى وزير الخارجية الإيراني، إلى وزيرة الجيوش الفرنسية، وأمين عام جامعة الدول العربية، ووزراء خارجية العديد من الدول العربية والعالمية لتقديم العون للمنكوبين. وبالتالي بات انفجار بيروت بقوّته، وحجمه، وأسبابه، وتداعياته، نقطةً محورية في صياغة التاريخ السياسي للبنان الحديث، وباتت مقولة، "ما بعد انفجار المرفأ، لن يكون كما قبله"، متداولةً في الأروقة السياسية والدبلوماسية، وعلى ألسن اللبنانيين جميعاً. وهذا ما ينتظر ترجمته في التعامل مع الاستحقاقات المقبلة لا سيّما تشكيل الحكومة الجديدة، وسُبل معالجتها للملفات المرتبطة بها، على المستويات السيادية، والسياسية، والإدارية، والاقتصادية، والاجتماعية، حيث لم يعد بالإمكان فصل تلك المسارات عن بعضها البعض. وهذا ما ألمحت إليه تصريحات المسؤولين الدوليين، لا سيّما الفرنسيين والأميركيين، والتي اعتبرها وزير الخارجية الإيراني بأنها تزعزع استقرار لبنان.


مصادر سياسية متابعة للتطورات السياسية في لبنان، رأت أن الحديث عن تشكيل حكومة جديدة وفق الآليات السابقة لم يعد قابلاً للتحقّق. فالشروط الدولية المحدّدة بثلاثة عناوين أساسية لا يمكن التغاضي عنها، (إصلاح الإدارة ووقف الهدر، وبسط السيادة على المعابر والحدود والمرافق العامة، ووقف أعمال التهريب بأشكاله كافة، والنأي بالنفس أو الحياد عن سياسة المحاور الإقليمية)، وبالتالي فإن تنفيذ هذه النقاط بات ضرورياً للحصول على مساعدة صندوق النقد الدولي، والمجتمعَين العربي والعالمي، وهذه العناوين تحدّد وظيفة الحكومة الجديدة، والتي أطلق عليها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، تسمية حكومة "طوارئ إنقاذية"، وتعالج الملف الاقتصادي، وتعيد إعمار بيروت، وتشرف على انتخاباتٍ نيابيةٍ مبكرة على أساس قانون انتخابي خارج القيد الطائفي.

ورأت المصادر إن إطلالة الأمين العام لحزب اللّه الأخيرة، وحديثه عن حكومة وحدة وطنية، وتلميحه إلى ترشيح الرئيس سعد الحريري لرئاسة تلك الحكومة، تخفي خلفها سياسة تمديد للأزمة، وإطالة عمر حكومة تصريف الأعمال إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، وبالتالي إبقاء لبنان رهينة التجاذبات الدولية. وهذا يتعارض مع المسار الفرنسي الذي طرحه الرئيس إيمانويل ماكرون الذي حدّد الأول من أيلول موعداً لإطلاق ورشة الإصلاح بالتزامن مع ذكرى مئوية لبنان الكبير.

المصادر أشارت الى أن الضغوط الدولية ستأخذ مجراها التصاعدي بعد إصدار المحكمة الدولية قرارها في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي من المتوقع أن تكون له تداعيات على المشهد الداخلي قد يعيد رسم صورة الانقسام الحاد الذي شهده لبنان عقب جريمة 14 شباط 2005. وسوف تُستكمل الضغوط الدولية في مجلس الأمن عشية التمديد لقوات الطوارئ الدولية نهاية شهر آب الجاري، حيث تشترط الولايات المتحدة الأميركية تعديل مهمة قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان لتشمل الحدود الشرقية، والمرافق البحرية، والمطار، والتي ربطها القرار 1701 بطلبٍ من الحكومة اللبنانية التي لم تبادر إلى طلب تلك المساعدة لمنع تدفّق السلاح الإيراني إلى لبنان، ولا لوقف التدخّل اللبناني بالحرب السورية. وتشير المصادر إلى أن فرنسا توافق على الشرط الأميركي، وكذلك روسيا التي تعمل على إنهاء الدور العسكري الإيراني في سوريا.


أمام هذا المخاض العسير والضغوط الدولية المتصاعدة، لا تمتلك القوى السياسية ترف المماطلة بالوقت، ولا الاجتهاد بتفسير الدستور، وتأخير موعد الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية الرئيس المكلّف تحت عنوان المشاورات قبل الاستشارات. فاللبنانيون لم يعد باستطاعتهم تحمّل المغامرات والتجارب المعروفة النتائج على غرار حكومة حسان دياب، ولا أخذِهِم رهينة سياسة المحاور الإقليمية، ولا الانتظار الى ما بعد الانتخابات الأميركية، ولا خيارات رئيس التيار الوطني الحر الاستراتيجية. فنصف سكان بيروت خارج منازلهم، والمساعدات الاجتماعية والصحية لن تدوم إلى ما لا نهاية. فالاحتياطي النقدي والمخزون الغذائي لا يكفي لأكثر من أشهرٍ قليلة، فكتمُ الغضب، يواجَه بغضبٍ آخر ويزيد من حدّة الانقسام العمودي الحاد، وخطر الانزلاق في الحرب الأهلية لا العكس. فالرقص على حافة الهاوية مخاطرةٌ غير محسوبة النتائج في زمن العواصف العاتية، وعلى الأراضي الزلزالية.