Advertise here

الأخلاق بين المثال والتطبيق

17 آب 2020 12:56:20

تلعب الأخلاق دوراً أساسياً في بناء الأمم والمجتمعات، أي أن المجتمع يصلح، ويسعد أفراده، إذا سادت بين أفراده. أما إذا غابت، ضعُفت المجتمعات وفسدت. ألم يقل الشاعر، "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا".

ويمكننا اعتبار الأخلاق بأنها، "منظومة قيَم يعتبرها الناس بشكل عام جالبةً للخير، وطاردةً للشر، وهي ما يتميّز به الإنسان عن غيره. وقد قيل عنها إنها شكلٌ من أشكال الوعي الإنساني، كما تُعتبر مجموعةً من القيَم والمبادئ تحرّك الأشخاص والشعوب كالعدل، والحرية، والمساواة".

والأخلاق هي دراسة، "حيث يقيّم السلوك الإنساني على ضوء القواعد الأخلاقية التي تضع معاييراً للسلوك، يضعها الإنسان لنفسه، أو يعتبرها التزامات ومبادئ يمشي عليها، وأيضاً واجباتٍ تتم بداخلها أعماله، أو هي محاولة لإزالة البُعد المعنوي لعلم الأخلاق، وجعله عنصراً مكيّفاً. أي أن الأخلاق هي محاولة التطبيق العلمي، والواقعي، للمعاني التي يديرها علم الأخلاق بصفة نظرية، ومجردة".

وضع كونفوشيوس، الحكيم الشهير في الصين القديمة، تعريفات عديدة للأخلاق بوصفها ضرورة اجتماعية، ونأتي على ذكر بعضها، على سبيل المثال: 

- من يمتلك الأخلاق الفاضلة، والرفاق الذين يشاركونه أهدافه، ليس شخصاً معزولاً.
- يساعد كريم الأخلاق الآخرين على القيام بالأفعال الجيّدة...
- يواجه كريم الأخلاق الفقر بهدوء.
- يتشدّد كريم الأخلاق مع نفسه، ويتشدّد الشخص سيّء السيرة مع الآخرين.
- يكون كريم الأخلاق رحب الصدر... 
- ما يهمّ كريم الأخلاق هو وجود الفضيلة والكرامة...

أمّا سبينوزا الفيلسوف الهولندي البارز- والذي وُلد لأبوين يهوديين، ووضع جانباً التعاليم الدينية التي كان يؤمن بها والداه، منصرفاً إلى دراسة فلسفة ديكارت، متبنياً آراءه في البداية، لكنه تخلّى عنها بعد ذلك ليشقَّ طريقه الخاص في وضع نهجٍ فلسفي متميز – فقد ألّف كتاباً تناول فيه موضوع الأخلاق. نال كتاب الأخلاق الذي نُشر بعد وفاته شهرةً واسعةً، وتضمّن جملةً من آرائه الفلسفية إلى جانب الأخلاق. 

واعتبر سبينوزا أن، "المعرفة توصل إلى الأخلاق"، وأن "كل تأملات الفلسفة الميتافيزيقية، وكل ما يمكن أن يضعه العقل البشري من أفكار... ليست لها غاية نهائية إلّا توجيه الإنسان في حياته من أجل هدفٍ سامٍ لهذه الحياة الإنسانية، وهو السعادة وسلامة الإنسان العقلية والأخلاقية". والحقيقة أن، "كل فلسفة سبينوزا يجدها المرء في كتابه «الأخلاق»".

ليست الأخلاق مجرّد مجموعة من القيَم النظرية، والتي بإمكاننا تجاهلها في ميادين التطبيق العملي، بل إن تطبيقها واجبٌ في حياتنا العملية اليومية، وفي تعاملاتنا مع الآخرين. أما في ميادين السياسة، التي كان يعتبرها المعلّم كمال جنبلاط، من أشرف المهن، فإن الأخلاق هي محور العمل السياسي وصمامه الأساس. يعني ذلك أننا إذا فصلنا الأخلاق عن السياسة فإن ذلك يعني خراب البلاد. وهذا هو بالضبط ما حصل في بلادنا، كما في بلادٍ عديدة أخرى. فالسياسة المجرّدة عن الأخلاق هي تقويضٌ للأسس التي تقوم عليها البلاد. وهكذا إذا انصرف السياسيّون إلى تأمين مصالحهم الخاصة فإن ذلك سوف يؤدي بالضرورة إلى تقويض الصالح العام للناس، وإلى سيادة الفوضى والتسيّب، وبالتالي الفقر. 

وتشتمل منظومة القيَم الأخلاقية في تطبيقها السياسي على النزاهة، والصدق، والأمانة، والسعي إلى تحقيق الصالح العام للمجتمع، وكذلك على الجرأة والإقدام، وعدم الرغبة في التمسك بكرسي الحكم إلّا إذا أراد  الشعب ذلك واقعاً وليس فرضاً. أما إذا غابت هذه المنظومة عن عالم السياسة عند الممسكين بزمام الأمور فقد يعاني الشعب من الحرمان والفقر، بينما تُتخم جيوب المسؤولين، وتزداد ثرواتهم إلى حدودٍ خيالية. وهذا ما حصل بالفعل في عددٍ من البلدان العربية خلال العقد الماضي، وكانت النتيجة وقوع انقلابات، وأعمال عنفٍ ما يزال يتردد صداها حتى الآن، واستفحال التضخم والفقر والبطالة.

وجرت العادة في ممالك الصين القديمة على عدم توظيف أي شخصٍ في وظيفة عامة قبل الخضوع إلى امتحانٍ يُجرى بعد انتهاء مدة التدريب النظرية والعملية، وبعد التأكد من قدراته العلمية وميزاته الأخلاقية. وكذلك تتلمذ الإسكندر المقدوني على أيدي أرسطو، واستقى منه العديد من الأفكار الهامة، والتي كانت دافعاً له في ما قام به من أعمال. وكان توحيد العالم ودمج حضارات الشعوب في بوتقة واحدة من هذه الأفكار. ولعل هذه الفكرة هي التي تجد طريقها إلى التحقق العملي في عالمنا الحالي، وإن بأساليب غير مباشرة.

نصل أخيراً إلى أخلاقيات التجارة، وهي التي لا يمكن فصلها عن منظومة القيَم الأخلاقية السياسية. فالقيَم الأخلاقية التجارية تشتمل على الصدق، والأمانة، وعدم الغش في نوعية السلع، ولا في أسعارها، أي أن نسبة الربح يجب أن تكون ضمن سقف معيّن لكل سلعة. والمتعارف عليه عالمياً أن تكون نسبة الربح على المواد الغذائية نحو 12 بالمئة، بينما قد تصل إلى 50 بالمئة وأكثر عند السلع غير الغذائية. لكن بعض الشركات والتجار يضعون هوامش أرباح خيالية على سلعِهم، وهكذا تتكدّس الثروات عند فئةٍ قليلة العدد من شرائح المجتمع، بينما تعاني شرائح واسعة أخرى من الفقر والعوز، أو من الضيق نتيجة تدني القيمة الشرائية لمداخيلها مع التضخّم الهائل في أسعار السلع، وتكاليف الحياة الأخرى. 
يمكننا القول في الخلاصة بأن الواقع الذي نعيشه الآن، هو نتيجة منطقية ومتوقعة لغياب القيَم الأخلاقية عن عالمَي السياسة والتجارة في لبنان.

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".