Advertise here

لبنان بين فكّي إسرائيل وإيران

16 آب 2020 15:59:00 - آخر تحديث: 06 أيلول 2020 10:31:24

ليس واضحاً ان كانت الرسائل الإيرانية التي يبعثها "الحرس الثوري" ناتجة عن ثِقة جدّيّة بالنفس وبالقدرة على إبرام صفقات تضمن توطيد السيطرة الإيرانية على لبنان عبر "حزب الله"، أو إن كانت رسائل التغطية على الذعر الإيراني من عدم الإفلات من العقاب. المُدهش المُرعب هو ان القيادات الإيرانية التي اجتمعت هذا الأسبوع قرّرت أن في تفجير بيروت الرهيب فُرصةً ونافذةً لزيادة نفوذها ولا تنظر الى تعرية استخدامها مرفأ بيروت لتخزين الذخيرة الخطيرة بأنه مشكلة. قيادات الحرس الثوري فخورة بأنها وضعت استراتيجية للبنان بمباركة مرشد الجمهورية قِوامها انه لن يُسمَح قطعاً وأبداً بفك قبضة إيران على لبنان مهما كان الثمن حتى وان تطلّب الأمر مُقايضات وصفقات مع الشيطان. إسرائيل تبدو راضية بهيمنة إيرانية على لبنان سيّما بعد تفجير مرفأ بيروت في تفاهمات لها رائحة كريهة لعلّها تقوم على تغطية دور إسرائيل في التفجير مقابل التغطية على قيام إيران في التخزين للمتفجّرات. فكلاهما لم يكن يتوقّع حجم مفاجأة الجريمة ضد الإنسانية في صفقة الموت في بيروت. ما تريده إسرائيل من إيران الآن هو احتواء نشاطات "حزب الله" مقابل رضى إيران – بِغض النظر عن الهتافات – عملياً وبراغماتياً على ابتلاع اسرائيل المزيد من الأراضي الفلسطينية عبر إجراءات الضم الرسمي التي تم ايقافها الآن بموجب الاتفاق الاماراتي– الإسرائيلي. المواقف الإسرائيلية التالية لإعلان الاتفاق تحدّثت عن "تجميد"  وليس ايقافٍ دائم لخطط الضم لاحقاً. هذه هي الأولوية المؤجّلة الإسرائيلية التي تلقى المُباركة الأميركية والروسية أيضاً. إدارة ترامب المُنشغِلة بالانتخابات الرئاسية وبمنع إيران من التملّص من حظر الأسلحة عليها ومن العقوبات لا تضع لبنان على رادارها كأولويّة، بالرغم من الدلالة المهمّة لزيارة نائب وزير الخارجية ديفيد هيل الى بيروت. أولويّتها إسرائيل فقط. روسيا حليف لإيران ميدانيّاً في سوريا وسياسيّاً في لبنان حتى وان بدت وانها شريك

لطهران وحزب الله في تدميره، لكنها أيضاً في علاقة جيدة جداً مع إسرائيل وجاهزة للتغطية عليها وللصفقات معها. الصين لا يهمّها لبنان إلا بِقدر ما يهم إيران في لبنان. فرنسا ستسعى، لكن الاستراتيجية الإيرانية تقف لها بالمرصاد، بل ان تركيا التي تُواجه فرنسا في ليبيا، تجد فرصة لها لتقف في نفس الخندق مع طهران لمنع فرنسا من الفوز بلبنان. وفيما "الأسرة الدولية" تتباكى على لبنان – وبعضها يبعث المعونات حقاً ومشكوراً – لا أحد يُساعد بيروت في التعرّف على ما حدث فعلاً، ولا أحد يُحاسب رئيس الجمهورية اللبنانية الذي اعترف بعلمه بوجود نيترات الأمونيوم في المرفأ المدني وتصرّف ضد الأمن القومي بخيانة لمسؤوليّاته الدستورية وبقيَ رافضاً أي تحقيق دولي في الانفجار، ولا أحد طالب جدّيّاً بمجرّد لجنة تقصّي الحقائق. الأهم، لا أحد يتكلّم عن مدينة الأنفاق تحت العاصمة اللبنانية وليس فقط في الجنوب حيث يمكن تبريرها بإسم المقاومة. في بيروت انها أنفاق المُتفجّرات والذخيرة والتهريب لأجل إيران وليس لأجل لبنان، والعالم صامت دون أن يجرؤ على الحؤول دون كارثة إنسانية أخرى بإصراره على كشف الحقائق والوقائع أو بمُساءلة إيران. حتى الدول العربية تضع نفسها، أو تجد نفسها، على هامش المُقايضات الدولية التي تُبرَم على أنقاض بيروت والجثث ما زالت تحت الركام.

صعبٌ جداً ثقب تفاؤل اللبنانيين الذين ظنّوا أن انفجار بيروت سيُغيّر الوضع الراهن ويأتي بجديد أفضل. أولى نتائج الانفجار بعد القتل والتدمير والتشريد هي "التهشيل" أي دفع الشباب الى الهجرة بعد سحق أملهم ببيروت وبمستقبل طبيعي. هكذا سجّل فريق التفجير والتدمير والتهجير نقاطاً مُهمّة لصالحه دون ان ترمش عينه.

الوضع الاقتصادي الكارثي مستمر ومعه يستمر النظام السياسي الفاسد الذي تتحكّم به طبقة من الحُكّام التي اعتادت أن تركب موجة العنف والدمار لتتموضع مجدّداً بما يوطّد مكانها، وحزب الله بات في الطليعة لأن استراتيجيّته في التموضع يتم صوغها في طهران.

في المعلومات الآتية من طهران عبر مصادر موثوقة ان استراتيجية توسيع النفوذ الآتية عبر "نافذة" و"فرصة" انفجار مرفأ بيروت تنطلق من العزم على ضمان فوز "حزب الله" وحلفائه في أيّة انتخابات برلمانية آتية من خلال تمويلٍ كثيف لـ"حزب الله"، الاستفادة من تشرذم المعارضة، الرهان على ضعف فورة الشارع، وضع خطّة إيرانية خاصة لإعادة بناء بيروت، تقديم "حزب الله" نفسه بأنه قوة وطنية وليس كحزب مُوالٍ لإيران وتسويق نفسه بأنه الضامن الوحيد لسيادة واستقلال واستقرار لبنان. بكلام آخر، ان الاستراتيجية الإيرانية تقوم على قيام حزب الله بتقديم نفسه بأنه المُخلّص الوحيد للبنان.

الروس مقتنعون "بصحة هذا المنطق" حسب أحد المصادر في موسكو سيّما ازاء الصفوف السياسية اللبنانية المنقسِمة. ثم هناك اعجاب بمنطق التجاوب مع المطالبة في الشارع بإجراء انتخابات مُبكرة ليأتي "حزب الله" ويقول: أنا جاهز. هيّا بنا. وهكذا يُسحب البِساط من تحت أهداف المُطالبين بالانتخابات البرلمانية بعدما تكون طهران جهّزته كاملاً وضمنت تدفّق الأموال اليه والى حلفائه. وبحسب المصادر، رأي القيادات الإيرانية هو ان رئيس الجمهورية ميشال عون "ملائم" لها.

خطّة إيران تنطوي أيضاً على تخفيض النفوذ السياسي للجيش اللبناني سيّما وأنه يتولى الآن إدارة حال الطوارئ في بيروت. هذه مَهمَّة أساسية في الاستراتيجية الإيرانية للبنان.

القيادات الإيرانية ليست قلقة من تحرّك الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لإنقاذ لبنان لأنه في اعتقادها ليس مؤهلاً لاتخاذ الخطوات العمليّة ولا قادراً على إدارة الحياة السياسية في لبنان. أما الولايات المتحدة، فإن طهران تحسبها في حساب الغياب عن الوعي في لبنان بسبب الانتخابات، وكذلك لأنها تترك القرار لإسرائيل. وإسرائيل لا تبدو موضع قلق لإيران. فطالما تضمن طهران لإسرائيل ان "حزب الله" لن يُضايقها، لن تهتم بالداخل اللبناني لأن كل ما تريده هو ألّا يكون على حدودها دولة غير صديقة. وفي حساباتها، "حزب الله" هو المفتاح انطلاقاً من اقتناعها أيضاً بأنه سيستولي على البلد. فالأولوية الإسرائيلية هي الضم فلسطينياً لاحقاً وضمان تحييد الحدود لبنانياً حالياً.

المشهد الإقليمي – الدولي يبدو في هذه المرحلة كالتالي: إسرائيل تؤجِّل ابتلاع ما تريده من فلسطين بطأطأة الرؤوس الأميركية والأوروبية والروسية والعربية. إيران تبتلع لبنان بنوعٍ من التواطؤ الروسي والصيني والإسرائيلي، بغضّ نظرٍ أميركي، وأمام عجزٍ أوروبي وعربي. روسيا تكرّس ابتلاع ما تريده من سوريا بمساعدة إسرائيلية لدى الدوائر الأميركية مقابل مساعدة روسيا لها لدى إيران في لبنان.

التغيّب والغياب الأميركي عن المشهد ساهم في صنعه لأن الولايات المتحدة ليست في وارد القتال من أجل لبنان حتى على ضوء كارثة وجريمة ضد الإنسانية. وهكذا، يقع لبنان الآن على مفترق خطير جداً وبين طَيّات صفقات معقّدة. الأولويّة الوحيدة لإدارة ترامب هي تمديد حظر السلاح على إيران في مجلس الأمن الدولي. الحقيقة الرهيبة هي أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تستخدم الجمهورية اللبنانية لتصنيع أسلحتها المحظورة وتشق شبكات نقل الأسلحة عبر الأنفاق الممتدّة تحت المرفأ والمطار وغيرهما من المرافق المدنيّة بموافقة الرئاسات اللبنانية والطبقة الخبيثة الحاكمة، وفي انتهاك فاضح للأمن القومي بما لا يقل عن الخيانة العظمى.

ولكن، ماذا لو كانت الاستراتيجية الإيرانية رسالة تغطية على الذعر الإيراني من عدم الإفلات من العقاب هذه المرة؟ ماذا لو أُخِذَت هذه الأهداف في الحسابات وبات في الإمكان إحباطها؟ قد يكون ضرورياً للشارع ألاّ يعفي أي طرف آخر من الأطراف المتواطئة من المحاسبة – الإسرائيلية والروسية والأميركية واللبنانية أولاً– ليفضحها ويتحدّاها في استراتيجية متماسكة وصابرة وعازمة على قلب الحسابات، وجاهزة للمفاجأة. هكذا فقط يمكن الانتقام لبيروت والحفاظ على لبنان لبنان وليس لبنان اسرائيل وإيران.

كلام الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله قبل يومين أثبت جدّية انطلاقة الاستراتيجية الإيرانية مرفقة بزيارة وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف الى لبنان. العنوان واضح وصريح وجريء وهو: هذا لبناننا ولن نتخلّى عنه. هذا لبناننا على نسقنا، ووفق تفكيرنا، وبموجب عقيدتنا، وطبقاً لخطّتنا، ورهن سلاحنا. هذا لبناننا برغم أنف كل من لا يرغب به على شكله هذا. لبناننا الإيراني الذي ندين به لكل من رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون وصهره جبران باسيل ورئيس مجلس النواب نبيه برّي.

نائب وزير الخارجية الأميركي ديفيد هيل أتى الى لبنان للاستطلاع والاستماع، حسبما قال، وبعث رسائل لهَثَ وراءها بعض اللبنانيين طمعاً بالرأفة والطمأنة. الإشارة الجدّية في سياسة ادارة ترامب التي يعوّل عليها المعارضون للسياسة الإيرانية نحو لبنان تتمثّل في توسيع العقوبات المؤذية لتطال حلفاء "حزب الله" وإيران في لبنان على مستوى عون وبري وباسيل. الى حين ذلك، ستستمر طهران في تنفيذ الاستراتيجية التي وضعها "الحرس الثوري" وستكون القيادات الإيرانية ربحت الرهان على الوهن الأميركي قبيل الانتخابات والسمعة الأميركية بالاستغناء عن الأصدقاء.

أولئك الذين يتوقّعون عودة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى لبنان الشهر المقبل متأبّطاً الخريطة السياسية لمستقبل لبنان يبالغون في تفاؤلهم. الرجل يبذل جهداً ويسعى، لكنّه لن يتمكن من إحداث تغيير جذري ما لم تلتزم معه الدول الأورويبة والولايات المتحدة باستراتيجية وخطة في المواجهة الجدّية للاستراتيجية والخطة الإيرانية للبنان. هذا ليس سهلاً في زمن الركود الاقتصادي وأولويات القلق المستمر من كوفيد-19. فللعالم أولوياته.

لا شيء إيجابي سيحدث ما لم ينطلق اللبنانيون أنفسهم نحو تغيير المصير بعكس ذلك المصير الذي تمّت صياغته في طهران على أشلاء اللبنانيين الأبرياء. المخاوف من اندلاع حرب أهلية لا يمكن الاستهانة بها أبداً، لكنها باتت أساساً في استراتيجية "حزب الله" و"الحرس الثوري" لإخضاع اللبنانيين الى الانصياع والخضوع للبنان الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لذلك يتم "تهشيل" الشباب اللبنانيين كي يبقى فقط من ليس قادراً على الاعتراض.

أُغتيلت بيروت العاصمة وبدأ الآن اغتيال لبنان لبنان. قد لا يكون أمام الشعب اللبناني الذي يرفض الانصياع سوى الانجرار الى الاختيار بين كلفة الاستسلام للاغتيال وبين المواجهة المُكلفة لاستعادة الحياة.