Advertise here

السرقة المشكورة

15 آب 2020 18:32:22

حفلت الأيام الماضية بساعاتٍ لا تحصى على شاشات التلفزة المحلية والعالمية، من التحليل والنظريات حول أسباب انفجار مرفأ بيروت المروّع والدامي. 

كثيرون من الداخل والخارج، وأغلبهم ليسوا أصحاب اختصاص، أتحفونا بنظرياتٍ تبدأ بالاعتداء والمؤامرة، وتنتهي بالتسخيف والتسطيح، كلٌ حسب هواه ومصلحته، وقليلون من أصحاب الاختصاص قالوا كلمتهم العلمية التي تغني عن كل الأطروحات والمجلدات، ولكن كلامهم كان في آخر سلم إحصائيات الاهتمام والاستماع.

أما أهل السلطة في لبنان، فغاصوا كالعادة في الأسباب والنتائج، وكلهم يهدفون إلى أمرين: 

الأمر الأول، غسل أيديهم من دم هذا الصديّق المقتول ظلماً، والذي اسمه لبنان وعاصمته الجميلة بيروت.

والأمر الثاني، إلقاء المسؤولية  على سواهم، وتبرئة أنفسهم، ومن يحبون أو يحالفون، أو يصادقون، جاهدين في الاستثمار السياسي على أبواب مرحلة جديدة قد تقود البلاد إما إلى ولادة جديدة يحرصون على ادّعاء أبوّتها، وإما إلى دمارٍ واندثار يحرصون على التملّص من تبعاته. 

نظريتان لا ثالث لهما في انفجار المرفأ:

إما أن يكون حادثاً، وإما أن تكون هناك مؤامرة. 

ولن أناقش نظرية المؤامرة، فلقد أشبعنا الجهابذة نقاشاً، بل سأنصرف فقط إلى نظرية الحادث العرضي. 

إذا صدّقنا أن انفجار المرفأ ليس جريمة قصدية، على ضخامتها، وأن لا مخازن أسلحة في العنبر المنفجر، ولا حوله،  وأن السياق الطبيعي لتخزين النيترات خارج كل المعايير العلمية والتقنية، كان سيقودنا إلى الكارثة لا محالة عندما يتم رمي كل المواد الخطرة والمتناقضة كيميائياً في مستودع واحد، ليصبح أي اشتعالٍ لأي مادة وقوداً لاشتعال الأمونيا لينتج غازات تجعل الأمونيا قنبلةً أين منها كل قنابل الدمار الشامل، فمعنى ذلك أن فساد الدولة يقود إلى زبائنية مرتزقة المراكز الذين يوضعون في مناصب لا يستحقونها، ولا يشرفونها، ولا يستطيعون إدارتها ورعايتها رعاية الأب الصالح، وأن قراراتهم وإدارتهم للمرافق العامة محكومة برضى أولياء نعمتهم، وأنهم محكومون بتأمين مصالح من جاء بهم، حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير الوطن بأكمله، وليس المرفأ وأحياء بيروت وقتل شعبها فقط. 

نظامٌ كامل أعمى، مقطّع الأوصال، كل مؤسّسة فيه جزيرة، وكل مسؤولٍ فيه مقاولٍ يرسو عليه التزام جزيرته، فيوزّع المغانم بينه وبين من عيّنه، سواءً كان المغنم مادياً أو معنوياً، أو غض طرف عن جرائم ومخالفات وموبقات، وكلها تقود إلى هدر المال العام، الذي أوصل البلاد إلى الافلاس لتمتلىء جيوب المحظيين، وهم قلة قليلة، وتفرغ جيوب كل اللبنانيين، إلّا من استطاع في غفلة من حراس الهيكل، ان يسرق لنفسه من الفتات الذي يبقى من السرقات الكبرى، خدمةً أو إعفاء من ضريبة، أو تخفيضاً لرسم للخزينة. 

الفساد يولد الهدر، والهدر يولد الإفلاس، والإفلاس يولد السرقة، والسرقة نوعان: سرقة صغرى وسرقة كبرى.
ولربما كان ما سُرق من عنبر الأمونيوم من النوعين ، ولكن الأرجح أنها من السرقات الكبرى. فليس للصغار أن يسرقوا آلاف الأطنان من نيترات الأمونيوم التي يحتاج رفعها وتحميلها ونقلها إلى جيشٍ من العمال والآليات ومقطورات النقل الكبيرة. والأرجح أن استعمال المواد المسروقة كان لأهداف كبرى واستراتيجية، وهي التي تحوي 34 بالمئة من الآزوت. 
ولكن هذه السرقة الكبرى، بنت الهدر والفساد، كانت بنت حلال هذه المرة، لانها جنّبتنا انفجار كامل الكمية، ووفّرت علينا الكثير من الأضرار في الأنفس والأموال.

قد ينتج الشر خيراً. فاشكروا من سرق النيترات، ولا تنسوا وأنتم في الطريق لاجتثاث الفساد والهدر، ان تستحدثوا نصوصا في القانون، تعفي السارق من العقوبة، إذا انتجت السرقة خيراً، ولو رغماً عن إرادته.