بعد مرور عشرين عاماً على «اتفاق الطائف» وما انبثق منه من تعديلات دستورية، لم يشهد هذا الاتفاق تطبيقاً كاملاً لبنوده، خصوصاً لجهة الغاء الطائفية، تمهيداً لإلغاء الطائفية السياسية والاتجاه الى دولة مدنية بطريقة شاملة، بل عمّق السياسيون والمسؤولون، الذين توالوا على الحُكم، الطائفية في المجتمع اللبناني، عبر إثارة الغرائز وتعزيز المخاوف والهواجس، في بلدٍ يجمع أقليات عدة. ويقول سياسي عريق: «كيف لِمن خاضوا حروباً طائفية عدّة، ويصلون الى السُلطة عبر الخطابات والسياسات الطائفية، أن يعملوا على إلغائها»؟
خلال الجلسة العامة لمجلس النواب الأخيرة في قصر الأونيسكو، حدّد رئيس المجلس نبيه بري خريطة طريق للبنان. ودعا الى «دولة مدنية ليتأكّد اللبناني أنّه مواطن في بلده، وللطوائف الحق في وجودها وحقوقها، من خلال مجلس للشيوخ». كذلك جدّد طرحه القديم - الجديد الثابت لجهة إقرار «قانون انتخابات نيابية من دون عائق مناطقي أو مذهبي».
هذا الطرح يعزّز مخاوف الطوائف المسيحية من «حُكم العدد» ومن إضعاف وجود المسيحيين ودورهم في هذا البلد. إذ ترى فيه تهديداً لصيغة العيش المشترك والتعددية التي تميّز لبنان وتُشكّل وجهه ووجوده وكيانه ودوره.
وتستغرب جهات سياسية طرح بري هذا، في حين أنّ مجلس النواب الذي يترأسه منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، هو المولج تأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية حسب المادة 95 من الدستور، وهو لم ينفّذ هذا النص الدستوري طوال ثلاثة عقود من الزمن.
وهذه الهيئة التي كان يُفترض أن تؤلّف عام 1992، تضمّ كلاً من رئيس الجمهورية ورئيسي مجلس النواب والحكومة وشخصيات فكرية وإجتماعية وتربوية وثقافية، وتضع الخطة المرحلية للعبور الى المواطنة والتحرُّر من القيود الطائفية، ونقل لبنان الى العلمنة المؤمنة بفصل الدين عن الدولة، وبالتالي يتحرّر المواطن من التبعية الطائفية، ويتحرّر الدين من التوظيف السياسي.
ويُجمع عدد من الخبراء الدستوريين، على أنّه «لا يُمكن انتخاب مجلس شيوخ في ظلّ وجود الطائفية وأحزاب طائفية ومذهبية، وقبل تنفيذ «اتفاق الطائف» لجهة بسط سيادة الدولة على كلّ الأراضي اللبنانية بقواها الذاتية وحلّ جميع التنظيمات المُسلّحة، لبنانية وغير لبنانية». كذلك يؤكّد مرجع دستوري، «أنّه لا يُمكن إلغاء الطائفية السياسية في ظلّ وجود أحزاب إلهية ولديها ارتباطات إقليمية».
من جهتها، تُجمع القوى السياسية المسيحية، فضلاً عن البطريركية المارونية، على رفض أيّ توجُّه أو قانون انتخاب يفرض الديموقراطية العددية والأكثرية ويهدّد صيغة «العيش معاً»، التي يقوم عليها لبنان. وتعتبر جهات مسيحية عدة، أنّ «أي كلام عن قانون انتخاب على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة وفق النظام النسبي من دون قيد طائفي في هذه اللحظة، فيما لا تزال هناك بنود سيادية في «اتفاق الطائف» لم تُطبّق بعد، هو عودة الى طروحات الديموقراطية العددية في زمن الحرب الأهلية».
وتقول مصادر سياسية مسيحية، «على أثر تعبير كتل نيابية عن ضرورة الإستقالة من مجلس النواب للذهاب الى انتخابات نيابية مبكرة، تعيد انتاج السلطة، وتصحيح الخلل التمثيلي الذي اعترى هذا المجلس بفعل الثورة وتبدّل مزاج الناس، عاد البعض الى طروحات قديمة بالكلام عن الديموقراطية العددية، اعتقاداً منها بأنّ هذه الطروحات تؤدي الى تخويف الآخرين، فيتراجعون عن موضوع الإستقالة من مجلس النواب. وفي كل الحالات، إنّ هذه الطروحات لن تمرّ، وإلّا لن يعود لبنان نموذجاً للحكم التوافقي».
وبعد طرح بري هذا، كان لافتاً الردّ السريع لرئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، الذي اعتبر أنّ «أيّ دعوة الى الديموقراطية العددية، ولو كانت مغلّفة، تنسف الصيغة اللبنانية والميثاق الوطني»، مشيراً الى أنّ «لدينا ما يكفي من مشكلات وأزمات لنضيف عليها مشكلة غير موجودة في الوقت الحاضر». وتقول مصادر «القوات»: «نرفض أي طروحات لها علاقة بالديموقراطية العددية، ونتمسّك بالديموقراطية التوافقية في لبنان الرسالة وبالدستور والميثاق اللبناني».
وفي حين أنّ طرح بري يتماهى مع مطلب بعض المجتمع المدني و»ثوار 17 تشرين»، تشير مصادر سياسية مسيحية الى أنّ «المجتمع المدني ليس موحّداً حول طرحٍ واحد، وهو جمعيات وجماعات، ولا يملك رؤية وطنية واحدة»، معتبرةً أنّ «مصدر هذا الطرح مهم جداً، فأن يأتي من المنتفضين شيء، وأن يأتي من فريق سياسي أو طائفة محدّدة شيء آخر». وترى أنّه «يُمكن طرح ذلك حين يصبح هناك جبهتان أو حزبان في لبنان، ضمن مشروع لبناني وأولويات وطنية. ولا يُمكن أن يكون هذا الطرح قائماً في ظلّ وجود فريق مسلّح وأولويته إيرانية». وتوضح، أنّ «الذهاب الى انتخابات نيابية على أساس لبنان دائرة واحدة، واعتماد الديموقراطية العددية، يُمكّنان طائفة واحدة من أن تتحكّم بالقرار السياسي في لبنان من دون تغيير النظام، فبدلاً من تغيير النظام تُمسك بالقرار. وهذه الخطورة في هذا الطرح، أي ضرب كلّ فكرة لبنان منذ عام 1943 الى الآن، باستخدام منطق الأكثرية لتغليب العدد على التوافق بين الجماعات، وهذا العدد لديه مشروع سياسي يتخطّى الحدود اللبنانية».
وتُجمع غالبية القوى المسيحية، على أنّ «تطوير النظام يُمكن التفكير فيه، لكن بعد أن تكون طُبّقت البنود السيادية في الدستور، وأن تكون الدولة المرجعية وأن لا يكون هناك سلاح خارج الدولة، وأن لا يمسّ هذا التطوير طبيعة التركيبة المجتمعية اللبنانية التعددية».
ويأخذ أيّ طرح تغييري في النظام بنحوٍ مباشر أو عبر توجّهات أخرى الآن أبعاداً عدة، في ظلّ اعتبار داخلي وخارجي، أنّ هناك حاجة الى تغيير جدّي وجذري في لبنان، بعد فشل قيام دولة القانون والوصول الى دولة المواطنة، وفي ظلّ حديث عن «تسييل» قوة «حزب الله» في الداخل اللبناني عبر مقايضةٍ ما، تعزّز موقعه، وبالتالي موقع الطائفة الشيعية في الدولة، مقابل تحجيم دور سلاح «الحزب» داخلياً وإقليمياً.
وتعتبر القوى المسيحية، أنّ الحلّ الأنجح، منعاً للوصول الى نوع من الفدرالية أو التقسيم، هو اعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة وليس السياسية، والتي ينصّ عليها الدستور، وبدلاً من أن تُعتمد خلال الثلاثين عاماً السابقة، عُزّزت مركزية الدولة في ظلّ سياسة إدارية فاسدة وغير رشيدة أو شفافة، وغياب الإنماء المتوازن والحوكمة والمكننة أقلّه، ما أحبط قيام الدولة وعرقل إنتاجية النظام القائم. وبالتالي لا يجب الذهاب الى الحكم العددي تحت حجة فشل النظام، بل تفعيل هذا النظام من خلال التطبيق الكامل للدستور وللإتفاقات بين اللبنانيين، واعتماد الحياد أو سياسة «النأي بالنفس» أقلّه.