رغم المأساة التي لفّت بيروت وأصابت اللبنانيين جميعا من جراء الكارثة التي سبّبها انفجار الثلاثاء الماضي، فقد تبين ضوء سياسي خافت من بين ركام الدمار، قد يساعد البلد المعذب في الخروج من المتاعب والصعوبات التي فاقت كل تصور، حيث لم تعد الحياة تطاق من دون تغيير، والمحددات القاسية التي رسمتها الإدارة السياسية للدولة، خنقت الناس في الاقتصاد وفي المال وخربت جنى عمرهم، وبعثت اليأس عند جيل الشباب، ناهيك عن الحزن الجارح على الشهداء وعلى أنين الجرحى.
الانتفاضة الشعبية الاحتجاجية العارمة التي انطلقت امس الاول وسط بيروت رغم المخاوف من عدوى ?يروس كورونا، فاجأت الأوساط السياسية، ليس فقط لأنها استهدفت مباني وزارة الطاقة المسؤولة عن انقطاع الكهرباء، ووزارة الخارجية المسؤولة عن تعطيل علاقات لبنان مع أشقائه وأصدقائه ووزارة الاقتصاد التي عطلت الاقتصاد ووزارة البيئة التي لم تعالج مشكلة النفايات الملقاة في الشوارع، بل لأن هذه الانتفاضة وحّدت شعاراتها، وركزت على ثلاث جهات أدانتهم حناجر عشرات آلاف المتظاهرين بصوت موحد أمام وسائل الإعلام المتنوعة، وهذه الشعارات حملت مسؤولية واضحة لركائز الحكم وداعميه عن كل ما جرى.
اما التداعيات الخارجية للزلزال الأمني الباهظ الثمن، فقد أظهرت مفاجآت متعددة في أكثر من اتجاه، حيث تضامن العالم بأسره مع لبنان، وخرجت الدول الكبرى عن صمتها المتناهي الذي غلب على المرحلة السابقة، وأكدت تضامنها مع لبنان وعدم تركه فريسة للطامعين بجعله ساحة مستباحة لخدمة مشاريعهم الخاصة التي أثبتت أنها لا تأتي سوى بالخراب. كما أن الاندفاعة العربية تجاه لبنان، والتي تجسدت بتقديم المساعدات الإنسانية وبالمواقف السياسية المتقدمة لغالبية الدول الأعضاء في الجامعة العربية، وبالدعوة لانعقاد جلسة خاصة لمجلس الأمن، كان لها الأثر البالغ في تضميد بعض الجراح، وأعادت الأمل الى غالبية اللبنانيين الذين كانوا يرفضون العدوان الإسرائيلي، كما يرفضون التدخلات الخارجية التي كادت أن تعزل لبنان عن هويته وانتمائه الى الأسرة العربية.
وفي مختصر لتداعيات المأساة وما رافقها من استنكار وتضامن، يبدو لبنان أمام استحقاقات جديدة لا يمكن الهروب منها مهما حاول البعض الاستقواء او العيش في حالة من النكران، ذلك أن مسؤولية الإدارة الأمنية والسياسية واضحة في الوصول الى الإخفاقات والكوارث التي حصلت، ومحور الممانعة الذي استثمر لبنان لسنوات في ظل تساهل من القوى السياسية اللبنانية، ووسط صمت دولي، هذا المحور لا يمكن له اليوم أن يتجاهل الواقع الجديد، او أن يحاول سحب يده عن مسؤولية ما جرى، او أن يكابر ويغامر في رفض المعطيات الداخلية والخارجية الجديدة، لأنه سيخسر حينها كل شيء، بدل أن يحد من خسارته المؤكدة، وتجاوبه مع الحوار لإنتاج مقاربة لبنانية استقلالية وحيادية جديدة، يمكن لها أن تجنب البلاد ويلات اضطرابات قد تتفلت من كل الضوابط، لأن هناك قرارا من الجمهور اللبناني العارم، يرافقه إصرار من المجتمع الدولي والعربي على إنقاذ لبنان، وعدم تركه في الدرك الذي وصل اليه في السنوات الأخيرة.
من دون الدخول في تفاصيل المعطيات المتوافرة عما يمكن أن يحصل، فمن المؤكد أن مجلس الأمن الدولي سيكون له دور أساسي في تصويب الأمور وضبط حالة الفلتان التي كانت قائمة، والقوى العربية والدولية تتبادل أفكارا متعددة لإنقاذ لبنان في المجالات السياسية والمالية والأمنية، والإرادة اللبنانية الداخلية تطورت بعد الزلزال الأخير الى الحدود التي تجعل منها قابلة لأي تضحية لإنقاذ الدولة التي يبدو أنها أصبحت قاب قوسين او أدنى من الموت بعد مرور مئة عام على ولادتها.