Advertise here

وطنٌ ليس للجميع: وماذا بعد؟

08 آب 2020 10:55:20

إبّان الحرب العالميّة الأولى، أي منذ حوالي مئة سنة، كتبتْ روزا لوكسمبورغ - التّي حُكِم عليها بالسّجن لأنّها كانت معارضة للعنف - وقالت: "لا مزيد من تسميم العقول. لا مزيد من الصياح الوطنيّ في الشوارع. لقد انتهى العرض المسرحيّ، ليس فقط لأنّ هذه الحرب جريمةٌ عظيمة، بل لأنّها تعدّ انتحاراً جماعياً". ماذا حصل اليوم، وبعد مئة عام من هذا التصريح، ونحن على أعتاب المئوية الأولى لاستقلال لبنان؟ وماذا بعد؟

انفتحت أبوابُ الجحيم. اتّخذ القدر شكلاً أكثر دمويّة بهيئةٍ مميتةٍ عديمة الجدوى، وانقسم الوطن إلى أوطانٍ، واحتكارٍ لفئةٍ دون أخرى. فأيّ نصرٍ تلهثون وراءه، وكل ما في البلد قد انهار وتهشّم بفعل التبعيّة الهمجيّة الممنهجة لتدمير البنيان الأساسيّ والركيزة الأولى للبنان. 

كيف، وبهذه البساطة يقرّر فريقٌ واحدٌ أن يهدّدَ حياة النّاس ووجودها بشكلٍ مستمرٍ غير آبهٍ بجغرافيّة وطن، وحياة شعب؟! لن تكون تبعات هذا الانفجار الذي نعيشه اليوم إنجازاً مجيداً يُضاف إلى السّجل الحافل من الإنجازات التي طالعتنا بها الحكومة الحاليّة. لن تكون هذه الجريمة مجرد ذكرى تُنَكَّس فيها الأعلام، ونبكي الشهداء، ونعود مساءً إلى منازلنا مقتنعين أنّه القدر، وإنّها الصدفة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم. 

مخطئ وواهمٌ مَن يظنّ أنّ هذه العقليّة القدرية المرتهنة التابعة للخارج ستبقى مهيمِنة. مجرمٌ وسفّاح مَن يظنّ أنّ محور الممانعة المتغلغل بأرشيفٍ دمويٍ في سوريا، والعراق، واليمن سينجح في السَيطرة على مفاصل هذا البلد. وهنا نستذكر قول تشرشل في أيار 1940، وفي خطابه الأوّل أمام مجلس العموم البريطاني، حيث قال حرفيّاً: "ليس لديّ ما أقدّمه سوى الدّماء، والمثابرة، والدّموع، والعرق".

ويتّضح لنا من خلال هذه المقاربة البسيطة أنّ أحدهم هنا يعيد هذا التاريخ ببشاعته، ولا يتعلّم منه!! هنا، وفي هذه البقعة العربيّة، هناك نسخةٌ جديدة من هتلر "مثير الجموع الشّعبوي"، حيث الشبه كبير في الفكر الإلغائيّ والتدميريّ. نفس المشهد يتكرّر أمامنا اليوم بفارق الزمن والجغرافيا. ولهذا ليس بغريب المطالبة المستمرّة من كافة الفرقاء الوطنيين بضرورة تحرير لبنان من السلاح غير الشرعي الذي أوصل أمّتنا إلى الحضيض. وها نحن اليوم في القاع، وسيأتي وقتٌ لن تستطيعوا فيه الوقوف بفخرٍ لتعلنوا أنّكم من عناصر المقاومة التي تحمي أبناء البلد.

من هنا، كانت بالأمس دعوة رئيس الحزب التقدميّ الإشتراكيّ، وليد جنبلاط، بضرورة المطالبة بلجنة تحقيقٍ دولية للتحقيق في الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت. وانطلاقاً من جملة الأحداث المتتاليّة، أعلن أيضاً أن لا ثقة بالحكومة الحاليّة، ولا بأدائها السّياسي. 

والمعروف أنّه لم يُمنَح لنا لبناننا كما أراده المعلّم الشّهيد كمال جنبلاط، أي من أجل "مواطن حرٍ وشعب سعيد"، ولكنّنا تمكنّا من صياغته بأنفسنا، وبوطنيّتنا وبعروبتنا. وسيأتي وقت، حين يقوم الملايين الذين يختلفون معنا بالوقوف خلفنا، وتحيّة ما قمنا به من أجل لبنان الوطن العربيّ الانتماء والهوية. لبنان العيش المشترك والميثاق الوطني. لبنان اتفاق الطّائف والدستور.

وتمشي اليوم قافلة الشهداء، وكما قال رئيس الحزب التقدميّ الإشتراكيّ، وليد جنبلاط، في 19 آذار 2017: "ادفنوا موتاكم وانهضوا". حتماً سننهض بوطنٍ بعيدٍ عن نهش الذّئاب، والوحشيّة الأسديّة الإلغائيّة. ستعود بيروت القلب النّابض بالفرح، والحياة، والشريان الاقتصادي الحيوي لدول الجوار، والمتنفّس الحضاري والترفيهي للخليج العربي. وستعود بيروت العاصمة الأولى في الشرق الأوسط، والتي تصدّر العلم والعمل، وتأخذ من التاريخ العبرة لتخطي الأزمات التي دمّرت مرفأها، لكنها لن تقضي على العزيمة في بناء الوطن الجامع لكل أبنائه على مختلف مذاهبهم.

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".