Advertise here

حكومة أم خليل

03 آب 2020 04:55:00 - آخر تحديث: 03 آب 2020 09:52:41

لا أعرف اسم رئيس الحكومة السورية الحالي، ولا الذي سبقه، بل إنني لا أتذكّر اسم رئيس وزراء سوري واحد في زمن "البعث"، رغم ادّعائي تعاطي مهنة السياسة. وحده رياض حجاب سمعتُ به عندما طبّقت شهرته الآفاق إثر انشقاقه عن "البعث"، وانضمامه إلى شعبه. وأذكر يومها أنني، وفي جلسة للحكومة في قصر بيت الدين، نقلتُ الخبر شامتاً إلى بعض زملائي من ممثّلي أحزاب الثامن من آذار، فتحمّلوني على مضض بدافعٍ من ودٍ شخصي، ليعودوا ويشمتوا بي لاحقاً على المآل الحزين للثورة السورية.

يبحث الحاكم دوماً عن ظلٍ يختبئ فيه، أو عن أداةٍ طيّعةٍ يضعها أمامه ليجمّل تقاسيم وجهه البشع، أو ليداوي نقص شرعيته. فشرعية القوة وحدها لا تكفي دائماً. المماليك البويهيون، وبعدهم المماليك السلاجقة، نصّبوا فتياناً خلفاء في بغداد، وحجروا عليهم في جناح الحريم والخصيان، ينصرفون إلى الموسيقى واللهو ونظم الأشعار، بينما أمسكوا بناصية الحكم في لحظات ضعف الخلافة العباسية إلى زمن أول الخلفاء الذي أصبحت معه الخلافة شكلّية بالكامل، والذي ناقض اسمه واقعه: المقتدر.

الضبّاط المماليك انقلبوا على آخر سلاطين مصر الأيوبيين، لكنهم تورّعوا عن استلام الحكم، فنصّبوا شجرة الدر سلطانةً لضمان شرعية حكمهم، فأمسكت مقاليد الدولة، وصنعت لنفسها خاتماً ملكياً باسم السلطانة أم خليل تيمناً بولدٍ لها ثكلته، واتّخذت بدورها مملوكاً زوجاً لها، ونصّبته سلطاناً، ثمّ قتلته لأنه أراد أنثى غيرها، ثم قتلها ابنه ليستلم الملك. وفيما الحكام المعلنون غارقون في دسائسهم الوضيعة كان الحكم الحقيقي ثابتاً وصاعداً، لأن الحكام الفعليين كانوا قد أصبحوا في الطريق إلى بلاد الشام والقدس لتحريرهما مروراً بقلعة الشقيف، كما يروي أمين معلوف في كتابه، "الحروب الصليبية كما رآها العرب".

سلالة رؤساء الحكومات في لبنان عالية الشأن. بلوغها شاقٌ وصعب المنال، فجلّهم وقف على أرضٍ صلبةٍ من التأييد الشعبي، أو من القناعات. ملّ اللبنانيون صراع الهويّات، وانصرفوا عنه، لكنهم ما ملّوا توازن السلطات الذي يعني توازن الوطن، وقد يستحيل هذا الهاجس محموماً وجَموحاً، كما في مسار وأدبيات السنوات الثلاث الأخيرة من العهد البائس، والمحتضر دون أسف، للرئيس ميشال عون. وقد شنّفت آذاننا، وأزهقت مسامعنا، شعارات العهد القوي، والرئيس القوي، والتيار القوي، والمسيحي القوي، والمسلم القوي، وتحالف الأقوياء، وكل أدبيات نزق القوة الذي قاد، ويقود، البلاد إلى نار الاحتقان، والكراهية الوطنية، التي كان قانون الانتخاب الأخير أحد أبرز  مسوخها، والتي فتحت باب النقاشات التأسيسية من الفيدرالية، إلى التقسيم، إلى الحياد، بشكلٍ متفجرٍ وخلافيٍ، ومجنون.

اجترح الرئيس نجيب ميقاتي، حسان دياب في لحظةِ ضيقٍ عشناها سوياً. وهو اجتراحٌ استند إلى سيرةٍ ذاتية مضخمة، وخادعة، وقعنا ضحاياها. لكنه خيارٌ ما لبثنا أن ندمنا وندم عليه، ندمٌ يفوق ندم ألفريد نوبل على اختراعه للديناميت. فأمعن في الصلاة والاستغفار، والإكثار من الحج المبرور، والحاج سلمَ من الإثم وفق العارفين المؤمنين. 

أوكِلت إلى حسان دياب وزارة التربية، فأوكلها بدوره إلى مستشاره فما نُسب إليه فساد، وما ترك فيها مأثرة. لا نعرف حجم التأييد الشعبي لحسان دياب خارج دائرة منزله العائلي، ولم نسبر غور اقتناعاته السياسية، أو مذهبه الاقتصادي، لكننا نعلم بالتأكيد عن الالتزامات التي قدّمها لمن أمسك بيده وأدخله دخول الفاتحين إلى السراي الحكومي التي بناها الأتراك في العام 1840، والتي بات طيف رفيق الحريري، ونُصبه القريب، يثقلان كاهل كلّ من جلس على كرسيّها، وينافس برج الساعة الذي بُني أمامها للدلالة على ألق العمارة العثمانية، واحتفاءً بالذكرى العاشرة لجلوس السلطان عبد الحميد الثاني على العرش العثماني، وهو السلطان الذي يلقّبه مريدوه بالسلطان المظلوم، ويعرفه كارهوه بالسلطان الأحمر، وهو آخر من امتلك سلطة فعلية من السلاطين العثمانيين، ورفض مطلب تيودور هرتزل بإقامة وطنٍ قوميٍ لليهود في فلسطين، وانتهى كرفيق الحريري مغدوراً في الإقامة الجبرية بعد خلعه بانقلاب.

لستُ من أهل التجريح الشخصي، ولا من دعاته، رغم ما نالنا من حسان دياب من عدائية وكرهٍ لا نجد مبرراً له في علم السياسة، وربما نجد له واحداً في علم النفس، لكن سيرة الأشخاص لا تنفصل عن تكوينهم وشخصيتهم. 

لا يشكو حسان دياب نقصاً في شجاعته، بل ربما يعاني فائضَ تهورٍ، وهو الذي هرول مسرعاً إلى السراي الحكومي في زمن عنود، وغرّته السجادة الحمراء، ولو فوق أرضٍ موحلة، وهو ما فتئ يردّد أنشودة العهد في اتّهام السنوات الثلاثين الماضية بكل الشرور، وهو اتّهامٌ يستهدف رجم رفيق الحريري وسنواته في الحكم، ويستهدف طيفاً لا يزال يعتقد بمعظمه أن الحريرية السياسية درّةَ تاجه المغدورة في الحكم، ويفترض أن حسان دياب يمثّله اليوم في تركيبة السلطة. لكن الأخير تجاوز في رمزيّته الطوائف والانتماءات البدائية، ويعتقد جازماً أن حناجر الجماهير الحانقة والغاضبة قد قادت خطاه إلى المهمة التي اختاره الله، ثم الشعب، لها فقَبِل بها على مضضٍ أسطوري وقَدَري. 

والاتّهام ذاته يستهدف التنصّل من المسؤولية عن الإنقاذ وإيجاد مبررات الفشل، كما أنه تعبيرٌ عن إنكارٍ فاحشٍ، وارتيابٍ مَرَضي، وتحميل كل من كان في الحكم في السنوات الماضية عبء الانهيار، وهو رأي قابلٌ للنقاش النظري، مع الأخذ بعين الاعتبار أن رعاة حسان دياب هم أصحاب اليد العليا في كل مراس السنوات السابقة سلماً وحرباً. فساداً وارتزاقاً وتعطيلاً. دستورياً وانقلاباً. خياراتٍ سياسية واستعداءً لكل من يُمكن أن يمدّ يداً للبنان. 

يمثّل الرئيس سليم الحص، الذي  يريد الرئيس حسان دياب أن يتمثّل به، ويريد أن ينتسب إليه زهداً، أبرز الاستثناءات الوافدة إلى سلالة رؤساء الحكومات، وهو رغم كبوة عهد إميل لحود، عرف كيف يحفظ أمانة من يمثّل في البنيان الوطني. وتكفي الشكاوى المتكرّرة في مذكرات فؤاد بطرس من مراسه وخياراته في زمن احتدام الخيارات الوطنية، من التعامل مع الثورة الفلسطينية، إلى حفظ التوازن في الخيارات والمؤسّسات، للدلالة على ذلك.

كان يمكن لحسّان دياب أن يفاجىء الكثيرين أخصاماً ومريدين، بالترفّع عن حسابات وأحقاد بعض من ولّاه،  والانصراف إلى مهمة إنقاذٍ تطوّع لها. لكن مسار الحكومة العقيم، وغرقها في الأحقاد، وخطب رئيسها المتعجرفة، الحاملة لأوهام وضغائن لم يكن يوماً على صلة بها، أو جزءاً منها، تجعله لا يخرج عن سياق رغبة أولياء الحكم، وسلاجقته، وبويهيّيه، في تسيّيد المريدين، ورجم الرافضين، وطمر رئاسة الحكومة في هذا الموقع المتعجرف والهزلي، وهي التي في أرذل السنوات بقيت فوق تلٍ سياسي مرتفع في السياسة، وفي القناعات، ولم تعرف مهانةً كما اليوم.

تدرّجت الحكومة الحالية من مكانة الألعوبة بيد من ولّاها إلى مكانة الأضحوكة الوطنية، إلى مكانة العبء على أصحابها قبل أخصامها. والأصحّ أنها باتت عبئاً على الوطن، ورحيلها بات مسألة ضرورة ووقت، وهي اليوم بمثابة جثةٍ حنّطها أصحابها، وأقعدوها فوق كرسيّها لغياب البديل. لكن رئيسها لا يزال يعتقد بأنه في بداية عهده الواعد، وهنا الطامة  الكبرى.

لا يستحق هذا العهد غير هذه النهاية البائسة بما أجّجه بين اللبنانيين من كراهية، وبما مزّقه في روحنا الوطنية من صلاتٍ رفيعةٍ. ويُحسب لهذه الحكومة أنها أدّت قسطها في مراسم جنازة العهد، وآن لها أن تُسجّى معه بخشوع ورضى، ودون أسف في رجمة سوداء من تاريخ لبنان الحديث.

(*) ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة "النهار" وجريدة "الأنبــاء".