بعد تأليف الحكومة الجديدة يأتي موضوع استثمار الثروة البترولية الموعودة في طليعة التساؤلات حول مصير ما تم خلال دورة التراخيص الأولى، من جهة، وحول الشروط المزمع تطبيقها على تلزيم بلوكات أخرى، من جهة ثانية. وما يزيد في ضرورة الإجابة باسرع ما يمكن عن هذه التساؤلات أنه، على الرغم من كونها مجرد حكومة تصريف أعمال طوال أكثر من ثمانية أشهر، لم تتردد الحكومة الراحلة في الشروع باتخاد التدابير الرامية لمنح حقوق استكشاف وإنتاج في أربع من أصل الثماني رقع الباقية في المنطقة الاقتصادية الخالصة، بما في ذلك استدراج عروض، والتأهيل المسبق للشركات الأجنبية المعنية، وتحديد آخرعام 2019 كموعد لإبرام الاتفاقيات اللازمة. هذا كله وكأن إلزام لبنان باتفاقيات بترولية بهذه الأهمية، تمتد على ما لا يقل عن أربعين عاماً، يمكن إدراجه في إطار صلاحيات حكومة تصريف أعمال. أضف إلى ذلك أن هذا التسرع في الإعلان عن دورة تراخيص ثانية قد حصل على الرغم من أن النقاش ما زال دائراً في المجلس النيابي حول أربعة مشاريع قوانين بترولية، بما فيها خاصة قانون إنشاء شركة نفط وطنية يمكنها تمثيل الدولة في اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج المقبلة مع الشركات الأجنبية، خلافاً لما حدث في الاتفاقيتين اللتين تم توقيعهما في مطلع العام الماضي لاستثمار الرقعتين 4 و9. وما يزيد هذا الوضع خطورة أن الجهات المسؤولة قد سارت خلال الأشهر الطويلة الماضية، وكأن شيئاً لم يكن، على نفس النهج الذي اتبعته في دورة التراخيص الأولى، بما في ذلك التزوير الصارخ للقانون البترولي وشل دور الدولة في الأنشطة البترولية، ونظام استثمار ينطوي على شروط مالية ورقابية من الأسوأ في العالم. ما يطرح السؤال حول التدابير التي لا بد منها والمفترض أن تتخذها الحكومة الجديدة لتصحيح الانحرافات التي حصلت حتى الآن.
سير بعكس القانون وتجاهل للأعراف السائدة في العالم
معظم هذه الانحرافات انطلقت من التزوير المذهل لقانون الموارد البترولية في المياه البحرية رقم 132/2010، الذي يتضمن عدة بنود تبرز بكل وضوح أهمية ومختلف أوجه صلاحيات الدولة ودورها المحوري في استثمار ثروة النفط والغاز الموعودة. في طليعة هذه البنود المادة 3 التي تؤكد أن هدف القانون هو "تمكين الدولة من إدارة الموارد البترولية في المياه البحرية"، والمادة 4 ونصها "تعود ملكية الموارد البترولية والحق في إدارتها حصراً للدولة"، تليها المادة 6 الخاصة بمشاركة الدولة الفعلية والمباشرة في الأنشطة البترولية. ثم توضح المادة 44 تحت عنوان "تقاسم الإنتاج" أن احتساب وتوزيع حصص الإنتاج بين ما يسمى بترول الكلفة وبترول الربح بين الدولة والمتعهد الأجنبي تتم وفق الشروط التي يتفق عليها الطرفان.
هذه الأحكام الأساسية التي قام عليها أول قانون بترولي في لبنان تعني باختصار أن الخيار الذي واجهه المشرع اللبناني قبل حوالي تسع سنوات لتحديد نظام استثمار النفط والغاز، هو نفس الخيار الذي واجهته عشرات الدول الأخرى من الدول النامية أو المستعمرة سابقاً. الجواب على هذا الخيار كان في بعض الحالات تبني نظام الاستثمار المباشر عن طريق شركة أو عدة شركات وطنية تقوم بكل العمليات البترولية دون منح أي حق ملكية على البترول المكتشف لشريك أجنبي. هذا ما فعلته بعض الدول المصدرة التي كانت تملك إمكانيات تمويل كافية وشركات وطنية سبق واكتسبت القدرات البشرية والتقنية اللازمة.
أما الخيار الثاني الذي تبنته معظم الدول النامية التي لا تملك لا الرساميل ولا التجربة ولا الكفاءات البشرية الضرورية، كما عليه الوضع في لبنان، فهو نظام تقاسم الإنتاج (Production Sharing Agreement) الذي تنص على ذلك بكل وضوح بنود القانون المشار إليها أعلاه. ويقوم هذا النظام على عقد بين الدولة ومتعهد أجنبي قادر على تنفيذ وتمويل العمليات اللازمة، شرط: أولاً أن يتحمل المتعهد وحده كامل المخاطر الفنية والأعباء المالية خلال فترة التنقيب، وثانياً أن تحتفظ الدولة بحق الدخول كشريك بنسبة قد تتراوح بين 40% و70-80% في حال التوصل إلى اكتشاف تجاري. في هذه الحالة يسدد الطرف الوطني تدريجياً للمتعهد الأجنبي حصته المسماة "محمولة" ( Carried interest) من نفقات التنقيب، ثم في تكاليف الإنتاج، ويصبح شريكاً بكل معنى الكلمة ويتصرف كما يشاء بحصته من الإنتاج، شأنه في ذلك شأن الشريك الأجنبي الذي يدفع للدولة ما يترتب عليه من إتاوة وضريبة دخل ورسوم أخرى على حصته.
الفرق الأهم والأساسي بين نظام تقاسم الإنتاج هذا ونظام الامتيازات القديمة الذي كان سائداً حتى السبعينيات من القرن الماضي هو أنه أعاد للدولة كامل حقوق التصرف والسيادة، بما في ذلك حقوق الملكية على ثرواتها البترولية، في حين أن هذه الملكية كانت تعود حصراً للشركات الأجنبية في ظل الامتيازت القديمة. أما سبب الانتشار السريع لنظام تقاسم الإنتاج في مئات الاتفاقيات السارية المفعول في أكثر من 70 بلداً، فيعود لتلاقي المصالح بين الأطراف المعنية أي، من جهة، مصالح البلد المضيف الذي يضمن تطوير ثروته النفطية تزامناً مع تطوير كوادره الوطنية بواسطة شركات وطنية تكتسب بعد فترة المقدرة اللازمة للسيطرة على استثمار هذه الثروة والاستغناء عن أي شريك أجنبي، ومن جهة ثانية، مصالح الشريك الأجنبي الذي يؤمن لنفسه مصدر تموين خاصاً به، مع ما يترتب على ذلك من أرباح على حصته من الإنتاج. ما يعني بتعبير آخر أن الدولة تقبل بالتنازل للمتعهد الأجنبي عن حق الملكية على حصته من الإنتاج، لقاء التزام هذا المتعهد بتحمل كامل نفقات ومخاطر التنقيب.
تحايل صبياني لتجيير الملكية لمصالح خاصة
إنطلاقاً من هذه المبادئ الأساسية التي تبناها المشرع بكل وضوح في القانون 132/2010، كان بإمكان اللبنانيين أن يأملوا أن استثمار ثروتهم البترولية الموعودة سيتم وفق أفضل الشروط المتعارف عليها عالمياً والمطبقة في عشرات الدول الأخرى ذات الظروف المماثلة للبنان. إلا أن المفاجأة الكبرى جاءت في الخفاء عندما بدأ المسؤولون عن وضع القانون البترولي موضع التنفيذ بصياغة "مراسيم تطبيقية" كان من المفترض فيها، كما يدل على ذلك إسمها، أن تقتصر على ما يلزم من التفاصيل التوضيحية أو الشكلية لتطبيق القانون. لكن الواقع كان أبعد ما يكون عن ذلك، خاصة في ما يتعلق بواحد من أهم هذه المراسيم، وهو المرسوم الخاص بمسودة الاتفاقيات المزمع عقدها مع الشركات الأجنببة للقيام بعمليات التنقيب والإنتاج في المياه البحرية، بما في ذلك الشروط التقنية والمالية والاقتصادية والبيئية الخ…
أما المفاجأة، أو بتعبير أصح المفاجآت والإنحرافات التي انطوى عليها المرسوم المذكور، فلم تقتصر على تجاهل المسؤولين لأحكام بغاية الأهمية من القانون البترولي، بل تعدت ذلك إلى تزوير صارخ للبنود الأساسية المشار اليها أعلاه، خاصة منها ما يتعلق بحقوق ملكية الدولة الحصرية للثروة البترولية، وضرورة إدارتها في إطار نظام عقود تقاسم الإنتاج مع متعهدين أجانب. هذه الضرورة وهذه المبادئ سمح بعض الموظفين لأنفسهم الضرب بها عرض الحائط عبر بضع كلمات فقط تضمنتها المادة 5 من المرسوم 43/2017 تقضي حرفياً بأنه "لن يكون للدولة مشاركة في دورة التراخيص الأولى"!...
هكذا، وبمنتهى البساطة، قرر بعض المسؤولين عن تنفيذ القانون، وفي ثماني كلمات لا غير، إفراغ هذا القانون من محتواه الجوهري المتعلق بمشاركة الدولة المباشرة والفعلية في إدارة وتنفيذ الأنشطة البترولية، مع كل ما يستتبعه ذلك من تدريب الكوادر الوطنية ومراقبة عمليات وحسابات الشريك الأجنبي، وتطوير شركة أو عدة شركات وطنية يمكنها اكتساب الخبرة اللازمة والسيطرة بشكل تدريجي على مختلف مراحل هذه الصناعة، كما حصل منذ سنوات طويلة في المكسيك وأندونيسيا والجزائر ومصر والعراق والمملكة السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة وإيران وعشرات الدول الأخرى.
بعد أن سمح هؤلاء المسؤولون لأنفسهم بطرد الدولة من المشاركة في الأنشطة البترولية، لم يخجلوا من التكرم عليها بـ"حق تعيين" مجرد مراقب يسمح له بحضور "بعض" اجتماعات لجنة إدارة المتعهد الأجنبي (المادة 16 من نفس المرسوم). ولسد الفراغ الذي أحدثه تغييب الدولة التي تمثلها عادة شركة نفط وطنية، تضمن المرسوم 2013/10289 في مادته رقم 8 ، كما تضمنت المادة 6 من المرسوم 43/2017 نصاً عجيباً مفاده أن حقوق الاستكشاف والإنتاج لا تمنح الا إلى "شراكة تجارية غير مندمجة" مؤلفة من ثلاثة أصحاب حقوق (أي شركات مؤهلة مسبقاً) على الأقل، منهم شركة مشغلة (Operator) بحصة 35% كحد أدنى، وشركتان غير مشغلتان على الأقل بحصة 10% كحد أدنى لكل شركة.
ما يعني أن الشركة المشغلة التي لا بد منها، أي القادرة على الحفر والإنتاج على أعماق تفوق 4000 متر تحت سطح البحر، تصبح ملزمة بالتحالف مع شركتين غير مشغلتين على الأقل، من أصل حوالي 40 شركة غير مشغلة تم تأهيلها مسبقاً على الرغم من عدم قدرتها على تنفيذ الأشغال المطلوبة. هذه الشركات المصنفة "غير عاملة" تضم شركات مارقة ملاحقة قضائياً في عدد من الدول المجاورة، وشركات وهمية لا وجود لها إلا على الورق، منها واحدة سجلها في هونغ كونغ رجل أعمال ورئيس أكبر غرفة تجارية في لبنان برأسمال لا يتجاوز 1290 دولاراً امييركياً، وأخرى شركات تنتمي إلى بلدان لم تنضم إلى الاتفاقيات المبرمة بين الدول الصناعية الكبرى بهدف تأمين الشفافية ومكافحة الرشى والفساد.
ولم يعد من الصعب بعد ذلك استعمال اثنتين أو أكثر من هذه الشركات غير العاملة كغطاء يخفي، في كل اتفافية، مصالح خاصة تنضم إلى شركة كبرى عاملة في إطار "شراكة تجارية غير مندمجة" تمنح حقوق الاستكشاف والإنتاج. وهكذا تكون هذه الهندسة الصبيانية قد اكتملت وأصبح بالإمكان تجيير ملكية قسم من البترول أو الغاز المكتشف إلى مصالح خاصة ممثلة بواحدة أو أكثر من الشركات الوهمية أو المارقة أو تلك التي تستحيل مراقبة حساباتها.
خسائر مالية تقدر بمليارات الدولارات
هذا التخلي المطلق ودون أي مقابل عن المشاركة ونظام تقاسم الإنتاج يعني عملياً قفزة أكثر من نصف قرن إلى الوراء والعودة إلى نظام الامتيازات القديم التي تم تأميم آخرها في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، كما يعني التخلي المجاني عن حصة الدولة وعن كامل حقوق ملكيتها على كل ما يمكن اكتشافه من النفط والغاز. علاوة على فقدان التحكم باستثمار هذه الثروة وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية، ينطوي هذا التخلي المذهل عن حقوق الملكية على خسائر مالية تقدر بمليارات الدولارات. فإذا اعتبرنا مثلاً أن القيمة السوقية للبترول والغاز المكتشف في أي من الرقع العشر في المياه البحرية تساوي خمسين مليار دولار، وأن عدم مشاركة الدولة بنسبة 40% في الاتفاقية المبرمة مع المتعهد الأجنبي، فهذا يترجم عملياً وتلقائياً بخسارة ملكية كمية من البترول والغاز قيمتها 20 مليار دولار. هذا مع العلم أن بإمكان الدولة، في حال الاحتفاظ بملكية هذه الحصة في إطار نظام تقاسم الإنتاج، أن تبيعها متى تشاء وتتقاضى كامل قيمتها وفق ما يعرف باتفاق farm in/out agreement.
اللافت أنه لم يتجرأ حتى الآن أحد من المسؤولين على تبرير أو تفسير سبب ما نصت عليه المادة 5 من المرسوم 43/2017 بخصوص عدم المشاركة وما ترتب على ذلك من تزوير للقانون وخسائر فادحة لم تتم بعد مساءلة ومحاسبة أي من المسؤولين عنها. كما يبدو من الغرابة بمكان أن يقبل بعض موظفي الدولة بتحمل مسؤولية بهذه الضخامة، خاصة وأن المرء لا يحتاج إلى شهادات جامعية عالية ليعرف أنه لا يمكن بشكل من الأشكال تعديل قانون بواسطة مرسوم مهما كان نوعه. فكيف ولماذا يا ترى تعامت هيئة إدارة قطاع البترول ودائرتها القانونية هذا التمييز بين المرسوم والقاتون وعن هذا التزويز الصارخ للقانون البترولي؟
علاوة على الخسائر الناجمة عن التنازل عن حصة الدولة من الإنتاج، يتكبد لبنان خسائر ضخمة أخرى جراء تدني كل عناصر ما يعود له من أرباح الشركات العاملة. هذه العناصر التي حددها المرسوم 43/2017 والقانون الخاص بالأحكام الضريبية الخاصة بالأنشطة البترولية تتكون من "رسوم مساحة" تكاد تكون رمزية، وإتاوة (Royalty) تتراوح بين 5% و12% على البترول حسب مستويات الإنتاج، و4% فقط لا غير على الغاز، مقابل مؤشر تقليدي عالمي لا يقل عن 12,5%، وسقف استرداد التفقات (Cost stop) بمستوى 65% سنوياً، مقابل حد أقصى لا يتجاوز 50% في العالم. كما أن المرسوم لا يأتي على ذكر أي من العلاوات (Bonus) المتعارف عليها والتي تدفعها عادة الشركات العاملة عند توقيع العقد أو عند بلوغ الإنتاج مستويات معينة. تضاف أخيراً لهذه العناصر ضريبة دخل 20% على أرباح الشركات العاملة.
نتيجة لهذه العناصر، يتبين أن مجموع حصة الدولة من أرباح الشركات العاملة لا يتجاوز 47% في أفضل الحالات، مقابل معدل 65-85% تحصل عليها البلدان المنتجة التي تبنت نظام تقاسم الإنتاج. مع الإشارة إلى أن حصة 47% التي يمكن أن يحصل عليها لبنان هي أفضل ما يمكن مبدئياً، أي شرط أن تكون مطابقة للأرقام الحقيقية التي لا يعرفها سوى الشركات العاملة التي تتحكم بكل التدفقات المالية جراء إقصاء الدولة عن الأنشطة البترولية، ما يجعل منها أقرب ما يكون إلى "الأطرش في الزفة".
تجاوزات أخرى فريدة من نوعها إضافة إلى تزوير القانون والخسائر الفادحة الناجمة عن التنازل عن حقوق ملكية الدولة على كامل ما يمكن اكتشافه من البترول والغاز، تمتاز مسيرة البترول والغاز في لبنان بانحرافات وتجاوزات أخرى لا تقل عنها غرابة، يمكن إيجاز اهمها في النقاط الآتية:
أولاً: التجاهل التام لمرحلة "الاستطلاع” التي نصت عليها المادة 11 من القانون البترولي وحددتها بثلاث سنوات، والمفترض أن يغطيها إتفاق مستقل خاص يسبق اتفاقية التتقبب والإنتاج، كما يقضي بذلك المنطق وكما تنطوي على ذلك الأعراف السارية في كل بلدان العالم. والهدف من مرحلة الاستطلاع هذه هو تمكين الدولة والمتعهد الأجنبي من جمع ما أمكن من المعطيات اللازمة قبل الدخول في اتفاقية تنقيب وإنتاج طويلة المدى. أما في لبنان فقد تم القفز فوق القانون وفوق هذه المرحلة ودمج كل مراحل الاستكشاف والتنقيب والإنتاج في اتفاقية واحدة تمتد على أربعين عاماً. والخاسر الوحيد في تجاهل مرحلة الاستطلاع هوالدولة لأن شركات البترول العالمية تملك أضعاف ما تملكه البلدان النامية من معطيات حول امكانيات تركيباتها الجيولوجية، وتتمتع من ثمة بقدرة تفاوضية مضاعفة في معرفة وتحديد شروط اتفاقية الإنتاج، في حين أن تجاهل هذه المرحلة يشكل إلى حد كبير قفزة في المجهول بالنسبة إلى الطرف الوطني.
ثانياً: تقسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة إلى عشر رقع فقط معدل مساحة كل منها 1790 كيلومتراً مربعاً، مقابل 69 رقعة في إسرائيل المساحة القصوى لكل منها 400 كيلومتر مربع لمنطقة اقتصادية تضاهي مثيلتها في لبنان، ومقابل رقع في القسم النرويجي من بحر الشمال لا تتجاوز مساحة الواحدة منها 500 كيلومتر مربع. مع العلم أن مساحة المنطقة الخالصة في النرويج تبلغ 2,140,000 كيلومتر مربع، أي ما يفوق مئة مرة مجموع المنطقة الخالصة في لبنان. وفي حال استمر الإسراع في تلزيم الثماني رقع الباقية، فالخطر هو تقييد لبنان خلال بضع سنوات باتفاقيات تمتد على أربعة عقود وتغطي كامل المياه البحرية، وذلك بشروط من الأسوأ في العالم، وقبل معرفة نتائج عمليات الحفر الأولى.
ثالثاً : الوزير وصلاحيات التسويق: نتيجة لغياب شركة وطنية، نص المرسوم 43/2017 على أن بترول وغاز الإتاوة، وكذلك الأمر بالنسبة لحصة الدولة من الربح والتي يتم تقاضيها عيناً، يمكن للوزير أن يكلف الشركة الأجنبية العاملة بتسويقها لحساب الدولة. فهل هذه يا ترى أفضل وأضمن وسيلة لذلك، عوضاً عن شركة وطنية تعمل تحت إشراف السلطات التنفيذية والتشريعية المختصة، كما هي الحال في سائر الدول المنتجة؟
رابعاً: حل االنزاعات. بدلاً من أن يكتفي بالتحكيم الدولي لحل النزاعات الممكنة مع المتعهد الأجنبي، فتح المرسوم المذكور نافذة غريبة من نوعها لحل هذه النزاعات عن طريق "خبير منفرد" (المادة 39) على الرغم مما ينطوي عليه تدبير كهذا من مخاطر انعدام الشفافية والرشوة في نزاعات قد تدور على مبالغ طائلة.
خامساً: التضليل عبر الادعاء بتطبيق "النموذج البترولي النروجي"
منذ أكثر من 12 عاماً والمسؤلون عن قطاع البترول يكررون أن سياستهم مستوحاة من “النموذج البترولي النروجي"، في إطار تعاون فني تتوالى بموجبه دورات التدريب لموظفين لبنانيين في النرويج وزيارات خبراء نروجيين إلى لبنان. إلا أن المقارنة بين البلدين تدل بوضوح على أن التدابير المتخذة في لبنان لاستثمار الثروة البترولية الموعودة لا علاقة لها، ولا تشبه حتى من البعيد وأبعد من البعيد، ما قامت به النرويج منذ الإعلان عام 1971 عن "الوصايا العشر" التي وضعها مجلسها النيابي والتي كانت وما تزال ركائز سياستها البترولية. وفي طليعتها الشفافية وإنشاء شركة نفط وطنية (ستاتويل) مارست منذ البداية المشاركة الفعلية في الأنشطة البترولبة، وطبقت نظام تقاسم الإنتاج لتدريب الكوادر النرويجية إلى أن أصبحت تسيطر على كل مراحل الصناعة البترولية والغازية.
أما في لبنان فما حصل هو عكس ذلك تماماً. فلماذا يا ترى لم يسأل المسؤولون اللبنانيون أنفسهم عما إذا كان موظفو وزارة الطاقة في النروج قد عدلوا حرفاً واحداً من التشريع البترولي الذي وضعه المجلس النيابي، أو عارضوا إنشاء ستاتويل ومشاركتها في العمليات الصناعية، أو ربما فكروا بقبول التأهيل المسبق لشركة سجلها في هونغ كونغ رئيس غرفة تجارة اوسلو للحصول على حق استملاك 10% على الأقل من البترول أو الغاز المكتشف في بحر الشمال؟..
على ضوء كل ما سبق يمكن القول إن ما يسمى سياسة بترولية في لبنان ليس في الواقع، ومن ألفه إلى يائه، سوى عملية تضليل واحتيال غايتها تجريد الدولة من حقوق الملكية على البترول والغاز وشل دورها في الأنشطة البترولية، واطلاق يد بعض المصالح الخاصة لنهب ثروة وحقوق وآمال اللبنانيين.