Advertise here

"نيويوركر": من الموت الأسود إلى كوفيد19... كيف تتأثر الإقتصادات والمجتمعات؟

25 تموز 2020 14:19:03

نشرت مجلة "نيويوركر" الأميركية مقالاً للكاتب لورانس رايت تساءل فيه ما إذا كان بالإمكان أن تشكّل جائحة "كوفيد19" فرصة للتغيير، موضحًا أنّ الأزمات الكبرى تؤدّي إلى تغييرات كبرى، لا سيما في المجتمع والإقتصاد، فعلى سبيل المثال شكّل الطاعون الذي ضرب أوروبا في القرن الرابع عشر، نهايةً للعصور الوسطى وبداية لتجديد ثقافي.

وبعدما أجريت دراسات كثيرة حول تداعيات الحروب والأزمات الإقتصادية وما أعقبها من تأثيرات، بعكس الأوبئة، وبهدف فهم عواقب فيروس "كورونا" وماذا يخبئ المستقبل للعالم، تواصل الكاتب مع الأستاذة المتقاعدة في معهد تاريخ الطب في جامعة جونز هوبكنز جيانا بوماتا، التي تعيش الآن في بولونيا والتي قارنت الجائحة التي يعاني منها الناس في معظم الدول اليوم بالطاعون الدبلي (Bubonic Plague) الذي وصف بـ"الموت الأسود" الذي ضرب أوروبا في القرن الرابع عشر، من حيث التأثير على الطريقة التي يفكر بها الناس، وليس بما يتعلّق بأعداد الذين يتوفون بسبب الفيروس فحسب. وأشارت إلى أنّ ذلك الطاعون الفتّاك شكّل نهاية العصور الوسطى ومقدّمة لعصر النهضة.

وكان تاريخ المحادثة الأولى التي أجراها الكاتب مع بوماتا في 27 آذار الماضي ثمّ تواصل معها في نيسان وأيار، حيث كانت تتواجد الأستاذة التي تقاعدت عن عملها في مدينة بولونيا التي تضمّ كنائس كبيرة وتصاميم مميزة، كما كانت تضمّ المدينة الإيطالية 100 برج، تشيّده العائلات الثرية من أجل استعراض ثرواتها.  فقد كانت إيطاليا تضمّ مدنًا مزدهرة وتمّ تشكيل شبكات تجارية لا سيما في المناطق الساحلية، مثل البندقية وجنوا وبيزا وأمالفي ، شبكات تجارية وأنشأت مواقع استيطانية، وأصبح الإيطاليون منفتحون على مناطق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، وفي ذلك الوقت بدأت تتشكّل الطبقة الوسطى بعدما انضمّ الفلاحون والحرفيون إلى هذه المدن وانطلقت الأعمال والآمال بمستقبل قوي، وفجأة حلّ الطاعون وبدأ الناس يموتون.

وتطرّقت بوماتا البالغة من العمر 69 عامًا والتي أمضت معظم حياتها في الولايات المتحدة الأميركية، في حديثها إلى المدن الإيطالية التي كانت قد صُممت في القرون الوسطى لأسلوب حياة مختلف، ليمشي الناس في شوارعها وليس السيارات، ولكنّ الطرقات أصبحت خالية من الناس بعد الإغلاق العام في إيطاليا في 10 آذار، وهو أمر محزن بعدما كانت شوارع المدينة ممتلئة بالناس ليلاً ونهارًا. وأشارت إلى أنّ عدد الحالات المؤكدة بكورونا التي سجّلتها إيطاليا وصلت إلى ستة وثمانين ألفًا بعد الصين والولايات المتحدة الأميركية.

سأل الكاتب بوماتا إذا كان بإمكانها أن تتخيّل مدينتها بولونيا خلال تفشي "الموت الأسود" في العصور الوسطى وتحديدًا قبل 672 عامًا، فأجابت أنّ "أول شيء ستراه هو القتلى في الشوارع"، موضحةً أنّه في ذلك الوقت لم يتمكنوا من التعامل مع أعداد المتوفين الكبيرة جدًا، كما هو الحال اليوم في مدينة بيرغامو التي تعدّ بؤرة للفيروس.

والجدير ذكره أنّ بولونيا تعدّ من أعرق المدن التي تدرّس الطب، وتضمّ جامعة تأسست عام 1088 وكان معروف حينها ما يسمّى بـ"الطب المدرسي"، أي تعليم الطب من دون إجراء تجارب. وأوضحت بوماتا أنّ الطاعون الدبلي الذي اجتاح دولاً كثيرة وتسبب بملايين الوفيات في روسيا والصين والهند وآسيا ودول أخرى حتى أنّ المؤرخين يقولون إنّ بعض المناطق لم يتبقّ فيها أحد، وكان مصدره الهواء الملوّث بسبب الرطوبة والبخار الناجم عن سوء الصرف الصحي، وقد سُمّيت حينها هذه الأسباب بنظرية "ميازما" التي ترجع سبب "الموت الأسود" إلى تعفّن المواد العضوية وفساد الهواء، ما دفع الأطباء الذين وضعوا النصوص الطبية جانبًا والبحث عن أدلّة وليس الإعتماد على النصوص فحسب. وتابعت أنّ ذلك كان بمثابة إحياء للعلوم الطبية التي كان قد تم رفضها بعد سقوط روما القديمة. والجدير ذكره أنّه في ذلك الوقت أخضع المسافرون والسفن إلى فترة عزل وصلت إلى 40 يومًا، ومن هنا أتت فكرة الحجر الصحي "Quarantine".

وعلى الرغم من أنّ أرقام الوفيات في العصور الوسطى ليست مثبتة بشكل دقيق، يعتقد مؤرخون أنّ نصف سكان بولونيا قد ماتوا عام 1348، كما فقدت المدن الأوروبية أعدادًا كبيرة من سكانها. وبحسب التقديرات، فقد أودى الطاعون بحياة ما بين 75 مليون و200 مليون شخص، بين الأعوام 1347 و1351.

وعن مقاربتها للتجربة المرضية القديمة والأزمة الصحية الطارئة عالميًا اليوم، توقعت بوماتا أن يكون لفيروس "كورونا" تداعيات في المجالين الاقتصادي والثقافي، كما أنّ الناس سيغيرون طريقة تفكيرهم بالأمور. وذكّرت بأنّ المؤرخين الذين تابعوا انتشار الطاعون كتبوا عن "انهيار الأسر"، والآن يُبدع الناس بإنشاء مؤسسات للحجر الصحي.    

 وسأل الكاتب بوماتا إن كانت الفرصة ستُتاح للإيطاليين الذين أصيبوا بالفيروس ثم تعافوا بأن يعاودوا العمل، فأجابت أنّ "ليس لديهم عمل، فالبطالة بين الشباب الإيطالي سجّلت 30%  قبل الانهيار الاقتصادي العالمي الذي تسبّب به كوفيد19". وقالت بوماتا إنّ من أبرز ما تسببه الفيروس اجتماعيًا هو عدم تمكّن الناس من وداع أحبائهم الذين يتوفون.

 ومؤخرًا، تحدث علماء وخبراء عن موجة ثانية من "كوفيد19" في الخريف المقبل، وربما يكون العالم بانتظار موجات عدّة. وفي هذا السياق، فقد بدأت الإنفلونزا الإسبانية بالتفشي في أوائل الربيع عام 1918، قبل أن تختفي صيفًا وتعاود الظهور في الخريف.

وإضافةً إلى "كوفيد19"، فقد  ضرب طاعون جستنيان (541-542) الإمبراطورية البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية، وقتل ما بين 30 مليون و50 مليون نسمة في العالم، ويُعتقد أنّ سببه هو السفن التجارية التي كانت تؤوي الفئران التي تحمل البراغيث المصابة بالطاعون. ليأتي العام 1347 حاملاً معه "الموت الأسود" إلى إيطاليا، والذي انتشر في أوروبا بشكل سريع، ليحمله في العام التالي الحجاج إلى مكة.  

إذَا، تسبب "الموت الأسود" بانهيار اقتصادي وديموغرافي في مدن أوروبا، التي تمكّنت بعضها من الإنتعاش بعد الطاعون بشكل سريع ومفاجئ. وعن التجربة الإيطالية فتحدثت بوماتا عن تغير عمل الحرفيين وتغير الأجور وحياة البرجوازيين. وأعربت عن انزعاجها من الكثير من الأمور في إيطاليا الآن، موضحةً أنّ البلد الأوروبي يفتقر لأقنعة الوجه، التي كانت تُصنّع في إيطاليا أمّا الآن فبات التصنيع في الصين.  وقالت: "لو ضرب فيروس كورونا إيطاليا في أوائل التسعينات، لكنّا تمكّنا من التعامل مع هذه الأزمة الصحية بفعالية أكبر، ليس فقط بسبب وجود أقنعة بذلك الوقت،  بل لأنّ نظام الرعاية الصحية كان ممولاً بشكل أفضل وكانت المستشفيات مجهزة وتضمّ غرف العناية المركزة، ولكن تمّ الإستغناء عن الكثير مما كان متوفرًا بسبب سياسات التقشف التي اتبعها الإتحاد الأوروبي".

 وفي هذا السياق، استشهدت بوماتا بمقال أعدّه الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي في صحيفة "الفاينانشيال تايمز" في آذار الماضي، والذي أشار فيه إلى أنّ  بعض القادة الأوروبيين يتساءلون أو يشككون بأفكار جوهرية متعلّقة بالنمو الاقتصادي، وذلك بعدما كان يتسلّم منصبًا هامًا في خضم فرض السياسة الاقتصادية الأوروبية التي تسمى "التقشف"، وللتوضيح فإنّ الدول الأوروبية الجنوبية، ومن بينها إسبانيا وإيطاليا والبرتغال واليونان مثقلة بأعباء الديون، أمّا الدول الأوروبية الشمالية الدائنة ومن بينها ألمانيا وهولندا فتشدّد على سداد المستحقات وفقًا لجدول زمني محدّد.

 وأوضحت بوماتا أنّ الطبقة الحاكمة في أوروبا ومن بينهم دراجي، لطالما كانوا ضد النظرية الكينزية في الاقتصاد، أي النظرية التي أسسها الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز، وبعد انتهاء عمله، أعرب في مقاله عن آراء إقتصادية تتناقض مع تلك التي كررها خلال السنوات الماضية. إذ قال دراجي في مقاله: "إنّ كورونا يشكّل مأساة بشرية، ويكمن التحدي بكيفية التصرف والمواجهة بالقوة والسرعة الكافيتين لمنع الركود من الإستمرار لوقت طويل، إضافةً إلى زيادة الدين العام".

وبرأي بوماتا، فبعدما قاله دراجي، على الطبقة التي تحكم أوروبا اليوم أن تعيد التفكير. ولفتت الى أنّ ألمانيا وفرنسا دعمتا إنشاء صندوق للنمو والإنعاش الإقتصادي في إطار مشروع الموازنة المقبلة للاتحاد الأوروبي. فيما قارن وزير المالية الألماني أولاف شولتز الصندوق بالإجراءات التي اتخذها وزير الخزانة ألكسندر هاميلتون والمعروف بـ"مهندس النظام المالي الأميركي" عام 1790، لتمكين الحكومة الأميركية من تحمل ديون الحرب الثورية للولايات، وتمويلها عن طريق إصدار سندات اتحادية.

وتابعت بوماتا أنّ الاقتصاد الإيطالي كان من أضعف الإقتصادات الأوروبية حتى قبل تفشي "كوفيد 19"، وواجهت الولايات المتحدة خطر البطالة المتزايد إثر فقدان كثيرين لوظائفهم، حيث أكد رئيس الاتحاد الفيدرالي الأميركي جيروم باول، أنّ الأزمة الاقتصادية الحالية الناتجة عن "كورونا" مختلفة عن أزمة الكساد الكبير التي حدثت في ثلاثنيات القرن الماضي، ما يعني أنّ مستقبل الإقتصاد الحالي يختلف عمّا حصل بعد "الموت الأسود".

https://www.newyorker.com/magazine/2020/07/20/how-pandemics-wreak-havoc-and-open-minds