يعاني لبنان من الفشل. كاد أن تصنّفه الأمم دولةً فاشلة. وكان سعيد عقل أعظم من حكام لبنان حين قال: "سألبنن العالم" لشدة طموحه بلبنان.
أما حكّام لبنان فسخّفوه، وقبّحوه، ونعتوه بأبشع الأوصاف. قالوا عنه: "شاعرٌ مجنون"، ردّوا عليه.
قال حكّام لبنان وسياسيّوه: سنعرقن لبنان. سنصومل لبنان.
ونهض العراق، بحكّامه الأماجد، من الحفرة، ونجا من الاحتلال.
وسينهض الصومال، والسودان، وسيريلنكا، وحتى دولة الفيجي. ستنهض إفريقيا العظيمة. وستنهض آسيا، أم العالم وأبوه، وسيظل لبنان دولةً فاشلة فاسدة، يدير سياسيّوه وحكامه "حديقة الفساد".
حديقةً شرّعت الفساد، قبل إذ هي شرّعت حشيشة الكيف. أتى تشريع الحشيشة من يد المنظومة الفاسدة نفسها التي تسهر بعناية فائقة، وبمحاصصة دقيقة، ومحسوبة ب"المليم"، على إدارة الفساد وتعميمه في الحديقة اللبنانية بحدودها الدولية، وبامتدادها خارج الحدود الدولية.
دجاجةٌ فاسدة اليوم تُفسد مزرعةً من الدجاج، تماماً كما تعلّمنا في دروس التربية المدنية والأخلاق: "تفاحةٌ فاسدة تُفسد صندوقاً من التفاح".
فما بالكم إذا فتحنا الدفاتر العتيقة كلها، وفاع في وجوهنا ذباب الملفات، وعمّت العطونة والروائح الكريهة، وأزكمت الأنوف، وعَمَت العيون في جميع أرجاء الحديقة الأربع.
لبنان مقبرة الملفات. ومقبرة النفايات. ومقبرة الإدارات. ومقبرة الالتزامات. ومقبرة التلزيمات.
لبنان، الطاقة الفاسدة، والكهرباء الفاسدة، والماء الفاسد، والصرف الصحي الفاسد. و"البور"، والمطار، والحدود والمعابر.
لبنان، البنوك الفاسدة. والمصارف الفاسدة. والصيارفة والسماسرة. والكازينو، واللوتو، واليانصيب، والطوابع المالية والطوابع البريدية. لبنان، الحاكم والحاكمية بالموجودات وبالمحجوزات، وبالميداليات، وبطباعة الأوراق النقدية.
هل أدلّكم على تجارة فاسدة لها مكاتب ومحاسيب، ومعقّبين وكنّاسين، ونواطير وسائقين، يقرمطون الوزارات والإدارات والرئاسات، مثل الجراذين؟
هلا دللتكم على مصهر القبضايات، ومطهر الزعامات والعمالات؟ هلا عرفتم كيف تجري الانتخابات؟
انتخابات رئاسية. وانتخابات نيابية. وانتخابات بلدية واختيارية. وانتخابات حزبية.
ها هنا يعشّش الفساد، في بناء السدود: سد بلعا، وسد المسيلحة، وسد شبروح، وبحيرة القرعون، وبحيرة الكواشرة. وها هم يفسدون مرج بسري، الأثري البيئة، بسدٍ على شاكلة تلك السدود.
يبني الفساد لهؤلاء أعشاشاً، فيفقسون زعماء، ورؤساء، وحكاماً، وذؤباناً. ويصيرون "حيّة الأرض".
يبيعون ويشترون على حسابهم، في حديقة الفساد. يلوّثون الرغيف والدواء، وشرف العلم، وشرف الوطن. يلوّثون السلاح. يفسدونه، قبل النفير. ولا يأبهون للوطن الصغير.
لم يبقَ شيء في لبنان، إلّا أفسدوه. من السيادة إلى العبادة. ثم تراهم يركعون: يقبّلون تراب الوطن.
فساد في السيادة. وفساد في العبادة. وفساد في الجهاد. وفساد في النضال. وفساد في السياسة، وفي الأحكام، والأعمال، والنوايا.
في لبنان وحده، دون سائر البلدان، يخَرّجون فَسَدةً ومفسدين، ومخرّبين، وعابثين برتبة سفراء للنوايا الحسنة.
ما لهؤلاء وللحديقة الخضراء، كيف أفسدوها. إذا حكموا أفسدوا. وإذا عارضوا أفسدوا. وإذا حاربوا أفسدوا. وإذا ما ثاروا أفسدوا.
لم يرحموا الأطفال في مدارسهم. لم يرحموا الطلاب في جامعاتهم. لم يرحموا المدرّسين والمربّين والأساتذة الجامعيين. لم يرحموا، حتى الأجراء والموظفين.
"حديقة الفساد" في لبنان، ماركة مسجّلة لهم في العالم، ولا تتعهد إفساد وتخريب لبنان وحسب، بل تسيل إلى الجوار بقاذوراتها. تغمر البلاد كلّها. تلقّن العالم دروساً في الفساد، وتعشّش في السنبل أضراس الجراد.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية