Advertise here

بين الحياد والتحييد

24 تموز 2020 11:03:00 - آخر تحديث: 04 أيلول 2020 12:34:37

قد لا يختلف اثنان في العالم حول انقسام اللبنانيين حيال مختلف قضايا الكون سواء كانت ذات شأنهم أو شأن الآخرين، فالمهم أنَّ هناك رأياً عاماً لبنانياً ذا وجهات نظرٍ لا يغض النظر، فلا مواقف رمادية فيها ولا حياد، فهل للحياد مكانٌ في نفوس اللبنانيين؟ وكيف له أن يكتب حروف نصوصهم؟

ينشغل اللبنانيون في الآونة الأخيرة بالقضية القديمة الجديدة التي أعاد طرحها البطريرك الماروني ما جعل بكركي بيت المؤيدين بعيداً من قصر بعبدا وهدف المعارضين لرمي السهام، وهي الحياد الذي يمكن تعريفه على أنه "مذهب سياسي يقوم على عدم الانحياز إلى كتلة سياسية من الكتل المتصارعة في الميدان السياسي"، ولا شك أنَّ هناك نوعين من الحياد، فالأول هو الإيجابي "الذي يعني عدم انحياز طرف إلى طرف آخر، والاستقلالية في القرار بما ينتج عنه قيمة مضافة، تساعد على البناء والتقدم الذاتي"، أما الآخر فهو السلبي "الناجم عن الضعف وقلة الحيلة، والذي لا يريد منه أصحابه سوى تجنيب أنفسهم المشكلات".

يتسلح دعاة الحياد الإيجابي على اعتبار أنه لا يعفي من مناصرة القضايا الإنسانية العادلة وحق الشعوب في تقرير مصيرها وتالياً الدفاع المستميت عن ثرواتها الوطنية، متهمين أخصامهم باستغلال هذه القضايا لتحقيق مآرب خاصة تنفح فيها روح الشخصانية الحزبية ودهاليز المشاريع الضيقة ذات الرؤوس الغريبة، فلا يمكن لمظلة الحياد السلبي أن تتلطى خلفها الدولة العاجزة أو غير الراغبة في مكافحة الفساد السياسي والإداري وغيره، وقطع دابر الهدر والهجرة والاستنزاف البشري، ولا يعفيها من إطلاق ورشة إصلاحٍ متعدد الأوجه، فتشغل نفسها في الدفاع عن قضايا التحرير والمقاومة دون أن تقدم لها شيئاً طوال عقود.

في مقابل دعاة عدم الحياد الذين يضعون أخصامهم في خانة العداء لحركات المقاومة والتحرر ومساندة قوى الاستعمار والاحتلال، وأن خلايا إرهابية نائمة ستستفيق لحظة إعلان الحياد.
إنَّ فريق عدم الحياد في لبنان لا يرى في مَنْ يدعو إلى الوقوف على مسافة واحدة من الجميع تحقيقاً لثقة العالم كله في مختلف القضايا كما هو حال فنلندا، سويسرا، النمسا وغيرها.

ففي خيار المقاومة والنضال لا يمكن لأحدٍ أن يزايدنَّ في عشق اللبنانيين لغصن الزيتون وحجارة الأطفال، فلطالما شكلت فلسطين قضيتهم ومحور خياراتهم السياسية ومعياراً لمقياس الوطنية السياسية والانتماءات الإنسانية.

ولأن اللبنانيين اعتادوا أن يخوضوا حروب الآخرين، سواء في الميدان اللبناني أو خارج الحدود، وما له من تبعات سلبية هائلة تؤثر في قيام الدولة وتحقيق المواطنة بين اللبنانيين، من هنا جاءت الدعوة إلى اعتماد نظام الحياد كمخرج وطني يجمع اللبنانيين حول مؤسسات الدولة كافة على اختلاف ألوانهم، إلا أن نظام الحياد وضمن إطار القانون الدولي يتطلب الآتي:

- إرادة لبنانية ذات أكثرية واضحة وهو ما يبدو مُعوَّقاً أمام الحاجة إلى إجراء استفتاء عام لا ينص عليه الدستور اللبناني وبالتالي إقراره في المجلس النيابي؛ فلا شك أنهم سيختلفون ليس على مضمون الاستفتاء فحسب بل على شكله.

- إعتراف دول الجوار الجغرافي بحيادية لبنان، وهنا بيت القصيد الانقسامي بحكم امتداد الصراعات العربية لبنانياً؛ فبعض العرب ينشد حياد لبنان بألحان مشروعه، والبعض الآخر يصرُّ على مشاركته وُحول حروبه الطائفية العبثية.

- الاعتراف الدولي والذي قد يسهل قوله إلا أنه يسقط عند أول رسالة سياسية توضع في صندوقة بريد لبنان إلى حيث يُراد لها أن تصل؛ فراعي لبنان الكبير أو لبنان الطائف لا يأبه أو أقله منشغلٌ عن لبنان المحايد.

قد يكون نظام الحياد السياسي مخرجاً تسووياً نهائياً للبنان الذي يعاني ثقلاً تغييراً في الديمغرافيا وتعدد الارتباط الخارجي، ولكن إذا كان ثمة صعوبات تحول دون اعتماد الحياد نظاماً قانونياً؛ قد يشكل الركون الفعلي إلى إعلان بعبدا والذي نص في بنده الثاني عشر على "تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية وتجنيبه الانعكاسات السلبية للتوترات والأزمات الإقليمية، وذلك حرصاً على مصلحته العليا ووحدته الوطنية وسلمه الأهلي، ما عدا ما يتعلق بواجب إلتزام قرارات الشرعية الدولية والإجماع العربي والقضية الفلسطينية المحقة، بما في ذلك حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم"، مرحلة إنتقالية إلى لبنان أفضل؛ فاللبنانيون عظماء في ابتكار المصطلحات الخاصة بهم للحفاظ على قصيدة الفرادة والخصوصية اللبنانية، وهذا الإعلان الذي لطالما أيّده وذكّر به مجلس الأمن اللبنانيين.

وعليه، فإذا كان الواقع اللبناني بكل تشعباته يحول دون كتابة نصوص الحياد قانونياً؛ فلا بد من تغذية نفوس التحييد سياسياً ريثما ترتسم معالم لوحة مستقبل المنطقة ومعها موناليزا لبنان الذي لا يفقه أسراره الكيانية لا شياطينه السياسية ولا ملائكته التسووية وهو الذي يحمل في طياته نفسِها نعمة بقائه ونقمة زواله.

فهل يسلك اللبنانيون درباً شائكةً تترنح بين الحياد والتحييد فينقذوا وطنهم، أم ينأون بأنفسهم عن الخيارات الوطنية فيلتزموا بالوكالة الخارجية ويكملوا مشاريع الآخرين؟