تحوَّل ملف المازوت وما يرتبط به من نقاش حول تقنين الكهرباء، إلى الحدث الأبرز على واجهة الأحداث الراهنة. ولا يُبالِغ أحدهم إن قال أن هذا الملف قد سرق الأضواء من تقلّب أسعار الدولار، رغم أهمية الأخير وتأثيره على الحياة اليومية للمواطنين. ذلك أن غلاء الأسعار يمكن اعتياده أو التحايل عليه بترشيد الاستهلاك إلى حدّ ما. لكن انقطاع المازوت والكهرباء لا يمكن تعويضه، نظراً لانعكاساته على رفع فاتورة المولدات الخاصة وتخفيض معدلات الإنتاج في بعض المؤسسات وانقطاع الانترنت والاتصالات.. والكثير من الأمور الحيوية.
عهد الوعود
شدّ الأنظار نحو الكهرباء والمازوت، ساهم في تفكيك بعض طلاسم هذين القطاعين، وتحديداً لجهة الصفقات التي كانت تستفيد من غش الفيول ورفع أسعار المازوت والتحكّم بمعدلات توفيره في السوق وتهريب الكميات الأخرى نحو سوريا، أو حتى تخزين بعضها تمهيداً لرفع الأسعار. وهي إجراءات تساهم في زيادة ساعات تقنين الكهرباء، تماماً كما يحصل في الآونة الأخيرة.
وزارتا الطاقة والاقتصاد، المسؤولتان المباشرتان عن الملف - الأولى كونها الوزارة الوصيّة على مؤسسة كهرباء لبنان التي يُستَورَد الفيول لصالحها، والثانية كونها المراقِبة لتوفير المحروقات للمواطنين من دون غشّ في النوعية والسعر، من باب الحرص على مصلحة المستهلكين- امتهنتا الوعود والتسويف كامتداد لعهد الوعود بالإصلاح، والذي أطلقه التيار العوني منذ بدء تغلغله في بنية النظام القائم، وتحديداً في وزارة الطاقة. وما أثمرت الوعود سوى اعتراف بحجم الأزمة، من دون اللجوء إلى تغيير نهج التعاطي مع الملفات.
فحول مسألة توفير مادة المازوت لتخفيف حدّة التقنين الكهربائي، مارَسَ وزير الطاقة ريمون غجر أسلوب الوعود، وهو العارف بفنونه مذ كان مستشاراً للوزير جبران باسيل، ملِك الوعود. إذ أعطى غجر مواعيد لخفض التقنين، لم يلتزم بها. ثم حَّدَد يوم الأربعاء 22 تموز، موعداً نهائياً لزيادة ساعات التغذية في مختلف المناطق اللبنانية. علماً أن بوادر الزيادة (الطفيفة) يمكن التماسها بدءاً من يوم الاثنين 20 تموز، بحسب غجر.
فيول غير مطابق
يُعدُّ عدم تطابق الفيول مع المواصفات المطلوبة لتشغيل معامل الكهرباء، ركناً أساسياً من أركان الفساد في ملف الطاقة. والفيول المغشوش كان يدخل إلى لبنان ويُستَعمَل في المعامل، بتواطؤ جيش كامل من العاملين في وزارة الطاقة. واستفحال الغش الذي أدى إلى تهديد مولّدات الطاقة في المعامل بالتوقف عن العمل، إلى جانب الصدام السياسي بين أركان النظام، أدى إلى انكشاف تفاصيل الغش، وانطلاق حملة صُوريّة تحكي عن محاسبة المسؤولين وطيّ صفحة الغش.
لكنّ استهداف الإصلاح جاء مرة أخرى من سلاح الفريق العوني نفسه، الذي حمل لواء عزل المسؤولين عن الغش. إذ أكّد غجر أن الوزارة تتخذ "كل الاحتياطات كي لا يصلنا فيول غير مطابق، لكن قد نقع في هذه المشكلة مرة ثانية". مشيراً إلى أنه "في حال عدم معالجة موضوع الفيول، سيؤدي ذلك إلى سوء تغذية بالكهرباء، وسيزيد الطلب على المولدات الخاصة التي تمشي بسرعة كبيرة ولا يمكن أن تستمر بشكل مستدام". وبرأيه، فإن الحل المستدام لموضوع الكهرباء هو "مؤسسة كهرباء لبنان"، لكن نجاح هذا الحل، يستند على "توفّر الفيول".
بتفسير آخر، يخبرنا غجر أن الفيول غير المطابق سيستمر بالوصول إلى لبنان، ولأنه غير مطابق، لن يجري استعماله، وبالتالي ستتأخر عملية تشغيل المعامل بطاقتها الكافية لتوليد الكهرباء، وإن بالتقنين المعهود قبل الفترة الحالية. أي أن التقنين القاسي سيتجدد والأزمة ستزداد، خصوصاً وأن "الطلب على المازوت هذه السنة أكبر من السنة السابقة. وليس لدينا مخزون إستراتيجي من المازوت يكفي لـ6 أشهر".
تفلّت التجّار
دلّ غجر على الأزمة ووضع علامات تنصّله من المسؤولية. فوزارته تصدر تسعيرة المازوت، لكن من لا يلتزم بها "هو من يقوم بالبيع من شخص إلى شخص"، وبالنسبة إلى المولّدات الخاصة "نحن نصدر تسعيرة توجيهية، ورغم ذلك فإن سعر الإشتراك بالمولدات ارتفع". وأمام هذين المعطيين، ألقى غجر بالمسؤولية على غيره، إذ أن "الجمارك وحماية المستهلك" تقومان بملاحقة من يبيع المازوت إلى الأشخاص، وأصحاب المولّدات الخاصة "لديهم مشكلة كبيرة بموضوع الفلترات والكابلات والنحاس التي لها علاقة بسعر الدولار". وبأسلوب "رفع العَتَب"، أكد غجر أن "الإلتزام بالتسعيرة مطلوب لأننا أعطيانهم هامشاً للربح"، من دون الدخول في تفاصيل دور الوزارة في التأكد من الالتزام بالتسعيرة، وكأنه يحيل الملف إلى وزارة الاقتصاد.
وزير الاقتصاد راوول نعمة، دخل إلى الملف من بابه الواسع، ملتحفاً بعباءة زميله غجر. العباءة الممتلئة بعبق التنصّل من المسؤوليات. فنعمة اجترح معجزة كشف أنه "لدينا أزمة مازوت في البلد. وبدل أن يتعامل التجّار بطرق شرعية مع هذا الموضوع يتبعون مبدأ الابتزاز". وعليه، يشكو نعمة عدم التزام التجّار وتعاملهم مع ملف المازوت بطرق غير شرعية، سالاً يده من مسؤوليته ودور وزارته في مكافحة التعامل بطرق غير شرعية. وهذا مدخل للتأكيد على أن الأزمة مستفحلة وستطول بفعل غياب نيّة المعالجة.
لم يقدّم غجر ونعمة سوى شهادات براءتهما من ملف الفيول والكهرباء. أما التجار وأصحاب المولّدات، فمتّهمون. لكن من سيحاسب المتّهمين؟ لا أحد. فكلّ ما يمكن فعله هو إجراءات شكلية كمثل إعلان غجر أن الوزارة توصّلت مع الأمن والعام والجمارك إلى آلية لتوزيع المازوت بطريقة سليمة، وهي أن "كل شركة مسجلة بمنشآت النفط ولديها ضمانات مالية، وتريد الحصول على المازوت، يجب أن تملأ إستمارة بإسم الصهريج والسائق والوجهة التي تريد إرسال المازوت إليها، بالإضافة إلى الكمية التي تم إستلامها لنتأكد من أن الكميات تذهب إلى وجهتها الصحيحة".