Advertise here

عن التمسك باتفاق الطائف في لحظة الاحتدام الإقليمي والانقسام الداخلي

30 حزيران 2020 08:41:00 - آخر تحديث: 24 أيلول 2020 15:15:36

لا ينطبق وصف "القداسة" على الاتفاقات السياسية التي تولد في لحظات من التقاطع المحلي والإقليمي والدولي وتتيح لدولةٍ ما أن تنتقل من مرحلة إلى أخرى وأن توقف دورات العنف المتتالية وتذهب في اتجاه الاستقرار والسلم الداخلي. هذا ما ينطبق على وثيقة الوفاق الوطني اللبناني (إتفاق الطائف)، التي وضعت حداً للحرب الأهلية التي استعرت على مدى 15 سنة متواصلة ودمرت البلاد والاقتصاد والمجتمع.

من هنا، فإن أي مقاربة لمناقشة التمسك بإتفاق الطائف لا تتوخى رفعه إلى رتبة "الوثيقة المقدسة"، فالسياسة مصالح وحسابات وليس صلوات وأمنيات، لا مكان فيها للعواطف والأحاسيس بل تتحرّك وفق موازين القوى التي قد تتبدّل بدورها تبعاً للظروف والمتغيرات.

ولكن في الحالة اللبنانية الراهنة، يبدو التمسك بإتفاق الطائف مسألة محورية وضرورية للعديد من الأسباب أولها، صعوبة توفر مناخات توافقية للرعاة الإقليميين للأطراف السياسية المحلية للتفاهم على إتفاق بديل؛ وثانيها، صعوبة توليد تفاهمات محلية بمعزل عن تلك المظلة الإقليمية المفقودة، وتالياً إقحام البلد في المجهول! ففي الوقت الذي تعجز فيه السلطة التنفيذية عن اتخاذ قرار ببناء محطة كهربائية أو رفع النفايات من الشوارع، هل ستتمكن من استيلاد تفاهم ميثاقي جديد ربما يأخذ في الإعتبار التبدلات في موازين القوى السياسية ويترجمها من خلال إعادة توزيع السلطة وفق عناصر تكوين جديدة وصياغة دستور جديد يلحظ كل هذه التحولات؛ وفوق كل ذلك، يتمكن من توفير الإستقرار السياسي والأمني المطلوب الذي قد يتعرض لإهتزازات جراء التلاعب بالتوازنات الداخلية التقليدية؟

لعله من المثير للريبة ما صدر من مقترحات تقسيمية في لحظة سياسية معقدة تسعى لإستغلال الإنقسامات المحلية العميقة والنفاذ منها لتقديم صيغة ترتكز إلى رسم حدود الكانتونات الطائفية والمذهبية! والسؤال الأساسي الذي يطرح نفسه في هذا السياق، إذا كان اللبنانيون تجاوزوا بصعوبة بالغة التحديات الوجودية أثناء الحرب الأهلية وفي مقدمها التقسيم، هل يجوز لهم أن يتراجعوا إلى الخلف الآن؟

لمن يعتبرون أن قيام الكانتونات الطائفية والمذهبية ليس سوى تكريس لواقع الإنقسام اللبناني وشكل من أشكال الإعتراف النهائي والصريح به والذهاب إلى تنظيمه، يتناسون أن ذلك من شأنه أن "يؤبد" النظام الطائفي اللبناني الذي يميّز بين المواطنين ويصنفهم في درجات متفاوتة تبعاً لإنتماءاتهم الطائفية والمذهبية وهو أمر مناقض للمواثيق الدولية التي تنص على المساواة بين البشر. والسؤال الأهم: إذا كانت اللوثة الطائفية والمذهبية قد فعلت فعلها في فرز اللبنانيين، ألا يجدر بنا البحث عن سبل تجاوزها بدل تكريسها؟

إن التقييم الفعلي لإتفاق الطائف لا يستوي نظرياً وعملياً قبل إستكمال تنفيذ جميع بنوده وفي مقدّمها تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وإنشاء مجلس الشيوخ (لضمان التمثيل الطوائفي) وإنتخاب مجلس نواب على أساس لا طائفي (لتحرير الحياة البرلمانية السياسية من الإعتبارات الطائفية). إن نظام المجلسين كفيل بالتوفيق بين الحفاظ على التعددية اللبنانية المتمثلة بالطوائف وعدم وقوع هذه الأخيرة أسيرة الخوف من بعضها البعض أو من عدم قدرتها على إيصال صوتها فتتمثل في مجلس الشيوخ، وبين ولوج مشروع قيام الدولة العادلة التي تساوي بين مواطنيها ولا تميّز بينهم. فالتمييز يبقى تمييزاً سواءً كان في اللون أو العرق أو المذهب أو الطائفة!

بالتوازي مع مخاطر الطروحات التقسيمية (والتي تترافق مع خطوات مثيرة للريبة من قبل قوى سياسية نافذة – معمل سلعاتا نموذجاً)، ثمة طروحات مستجدة دخلت إلى حيز النقاش السياسي في الآونة الأخيرة مثل ذاك العنوان العريض الذي سمي "التوجه نحو الشرق" ويستبطن تعزيز العلاقات اللبنانية مع سوريا وإيران والصين.

صحيح أن لبنان لطالما كان صلة الوصل بين الشرق والغرب وأنه حاول دائماً تحقيق التوازن في علاقاته الخارجية (وهو ليس الوضع القائم راهناً والدليل أنه يعيش ما يشبه عزلة عربية ودولية شاملة وغير مسبوقة)، ولكن الصحيح أيضاً أن لبنان بتعدديته وتنوعه، بإرسالياته وجامعاته، بصحافته الحرة ومظاهراته، إنما يعكس ذاك النمط من الحريات العامة التي تضيق مساحاتها بضيق صدر بعض المرجعيات ومستشاريهم)، وهو النمط غير المتوفر في الشرق!

النظام السوري، عدا عن كل من قام به من تدمير منهجي لبلاده ورمي للبراميل المتفجر واستخدام للأسلحة الكيماوية وتهجير لشعبه داخل وخارج وطنه؛ أصبح اليوم تحت عقوبات أميركية قاسية ستؤدي إلى المزيد من الانهيار والتدهور. والنظام الايراني يحاول منذ عشرين سنة أن يستبدل نظام التعاملات التجارية بالدولار الأميركي دون فائدة وهو أيضاً يخضع لعقوبات دولية واميركية. وبالتالي، يبدو التفكير بتوثيق التعاون مع هذين النظامين في هذه اللحظة بمثابة امعان في الانغلاق اللبناني ومغادرة نهائية لموقع لبنان الطبيعي في إطار محيطه العربي الذي حسم كذلك في إتفاق الطائف من خلال "نهائية لبنان وعروبته".

صحيح أن النظام الرسمي العربي مأزوم، كما كان دائماً، ولكن الصحيح أيضاً أن لبنان كان ولا يزال جزءاً من هذا المحيط بلغته وموقعه وعلاقاته التاريخية سواء على الصعيد الرسمي أو على الصعيد المجتمعي. واللبنانيون ساهموا في نهضة دول الخليج العربي ولا يزالون حتى يومنا هذا يشكلون جزءاً هاماً من تلك المجتمعات العربية التي إحتضنتهم وفتحت لهم الآفاق الواسعة التي أجادوا الإستفادة منها بكفاءاتهم وجديتهم. بكل بساطة، الصورة ليست مماثلة مع "الشرق" المطلوب التوجه نحوه!

إن تغيير وجه لبنان لا يكون بالإنقضاض على التفاهمات الداخلية التي كرّسها اتفاق الطائف رغم هشاشتها، بل يكون بالبحث الجدي في سبيل تعزيزها من خلال التطبيق الجدي للوثيقة بدل اختراع مسارات موازية لها مثل اللامركزية المالية التي لم تأت الوثيقة على ذكرها بل إكتفت باللامركزية الإدارية. بدل بذل الجهد لخلق الأعراف المناقضة للدستور، فلنذهب إلى تطبيقه، ولنبحث في سبل تعزيز الثقافة الدستورية بدل ثقافة خرق الدستور!