Advertise here

محاصرة مصر استهداف لما تبقى من أمن قومي عربي

27 حزيران 2020 12:50:47

رسم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خطوطاً حمراً أمام تدخلات تركيا في ليبيا، وطلب من جيشه الاستعداد لتحرك محتمل. وقال السيسي أمام قواته إن، "أي تدخلٍ مباشرٍ من الدولة المصرية باتت تتوافر له الشرعية الدولية". وأضاف: "سواء في ميثاق الأمم المتحدة: حق الدفاع عن النفس، أو بناءً على السلطة الوحيدة المنتخبة من الشعب الليبي: مجلس النواب".

وحدّد السيسي "خطاً أحمر" على الأراضي الليبية يمتد بين "سرت والجفرة"، وقال إن بلاده، "لن تسمح بتجاوزه". وخاطب قواته قائلاً: "كونوا مستعدّين لتنفيذ أي مهمة هنا داخل حدودنا، أو إذا تطلب الأمر خارج حدودنا". موقف الرئيس السيسي جاء خلال تفقّده القاعدة الجوية بغرب البلاد قرب الحدود مع ليبيا، وذلك بعد إعلان تركيا رفضها وقف العمليات العسكرية قبل السيطرة على مدينتي سرت والجفرة، اللتين يتمركز فيهما الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر.

التحدي الليبي ليس الخطر الداهم الوحيد الذي يواجه الجمهورية العربية المصرية، وأمنها الوطني والقومي. فبالإضافة إلى تداعيات انتشار جائحة كورونا على الاقتصاد، وتراجع السياحة، ونقص الموارد، وانخفاض أسعار النفط، فشلت المفاوضات بشأن سد النهضة مع إثيوبيا، مما أنهى الآمال في إيجاد حلٍ سلمي مرتقب للنزاع الوجودي بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا؛ وبالتالي فإن محاولة تنفيذ إثيوبيا تهديداتها بملء السد دفعة واحدة، ودون اتفاق، تضع القاهرة أمام تحدي الرد والدفاع عن أمنها المائي والغذائي، على الرغم من إحالة الملف إلى مجلس الأمن الدولي للنظر فيه.

ومن المتوقع أن تكون مصر أمام موقف حرج، يضع اتفاقات السلام بينها وبين إسرائيل على المحك إذا ما مضى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قُدماً في تنفيذ خطة صفقة القرن، وضمّ الضفة الغربية وغور الأردن، وهي الصفقة التي تعارضها القاهرة، ما يستدعي تحركاً وموقفاً مصرياً فوق العادة، وعدم الاكتفاء بإصدار بيانات الرفض والاستنكار في الوقت الذي يواجه الجيش المصري فيه اعتداءات المتشدّدين والجماعات المتطرفة في شمال سيناء، ومَن يدعمها في الداخل والخارج، منذ الإطاحة بحكم الرئيس السابق محمد مرسي في حزيران 2013. وهذه الاعتداءات لا يمكن أن تتم بمعزلٍ عن عمل أجهزة استخبارات دولية، لأن الوصول إلى سيناء إما أن يكون براً عبر غزّة، أو من الداخل المصري، أو بحراً. وهذه الإمكانيات لا تمتلكها القوى الإرهابية منفردة، بل إن طريقة نقل المرتزقة والمقاتلين من سوريا إلى ليبيا من خلال الأجهزة التركية، كشفت عن نموذج تستخدمه الاستخبارات الدولية في حالات مشابهةٍ، ولا نستثني إسرائيل من هذا الدعم.

لقد شكّلت جمهورية مصر العربية في الماضي القريب والبعيد، وما زالت، نقطة ارتكازٍ محورية في صياغة وحماية الأمن القومي العربي. ومصر ليست بلداً ضعيفاً عسكرياً، فالمؤسّسة العسكرية المصرية مؤسّسة عميقة، ومتجذّرة، وقوية، ولها امتدادٌ شعبي كبير، كما لها تمويلها الكامل من الدولة المصرية، ولها علاقاتها. لكنها في الواقع مكبّلة باتفاقات والتزامات، سواء باتفاقية كامب- ديفيد بين مصر وإسرائيل، أو بنمط العلاقة المصرية- الأميركية، وطريقة تسليح الجيش المصري، وطريقة التعامل مع الاقتصاد المصري. وهذا ما يجعل من مصر محط استهدافٍ دائمٍ لكل طامعٍ بالثروات العربية، وطامحٍ بالسيطرة على مقدّرات المنطقة وخيراتها. فإضعاف ومحاصرة مصر هدفٌ دائم للقوى الإقليمية المتصارعة على المنطقة، أي إسرائيل، وتركيا، وإيران، دون أن نستثني روسيا والولايات المتحدة الأميركية.

فهذه القوى الإقليمية الثلاث لها منهج مشترك في اختراق الوسط العربي، والجغرافية العربية، والحدود العربية. وإن كانت إسرائيل سبّاقة في عدوانها على الدول العربية، فإن السلوك الذي اتّبعته إيران عبر استمالة المنتمين إلى مذهبها الطائفي، واحتضانهم سياسياً ومالياً لتحقيق توسّعها الإمبراطوري، دفع تركيا الى اعتماد التجربة عينها بركوبها موجة الثورات العربية، لا سيما ثورة الشعب السوري، واستخدامها لتحقيق أهدافها العميقة التي تعكس الروح العثمانية لدى أردوغان، والجيش التركي الذي يعمل بشكلٍ منهجي على توسيع دائرة نفوذه خارج الحدود التركية، تنفيذاً لاستراتيجية "تركيا الزرقاء" المطلّة على البحار: من البحر الأسود، إلى بحر مرمرة، والبحر المتوسط، والبحر الأحمر وصولاً إلى القرن الإفريقي. إضافةً الى ذلك ثمة مشترك استخباري تركي- إسرائيلي في غزة قادرٌ على فعل العديد من الأشياء في مواجهة مصر.

وإذا أسقطنا على هذا الثلاثي الإقليمي، الدور المستحدَث لإثيوبيا، والدور الروسي الساعي إلى استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي السابق في منطقتنا بطريقة نفعية، نكون أمام ارتسام شديد الوضوح لتحالفاتٍ قوية جداً ومصلحية، تتصارع على الحصص وتلتقي على الجسد العربي، وتحاول بكل ما لديها من قوة تحطيم ما تبقى من قوة عربية تمثّلها مصر من جهة، وتحالفها الرباعي مع السعودية والإمارات والبحرين، ومن يقف إلى جانبها من قوى الاعتدال العربي من جهةٍ ثانية. فالصراع بين القوى الإقليمية لا يخرج قيد أنملة عن طريقة الاستثمار الأميركي في الفوضى، وطريقة إعادة رسم الخرائط، وإعادة بناء المنظومات السياسية من أجل السيطرة والتحكم الشامل في حوض المتوسط، وفي منطقة النفط العربي بشكل رئيسي.

أما الغطاء الأميركي الذي توفّر لتركيا في تدخّلها في ليبيا، فقد سمح لها بنقل العتاد العسكري والمقاتلين، وقلب موازين القوى لصالح حكومة الوفاق. ولو لم تتدخل الإدارة الأميركية مع تركيا، ومع حكومة الوفاق لتوقفهما عند الحدود الإدارية للمنطقة الغربية، ما كان الرئيس المصري ليستنفر قوته، ويهدّد بالتدخّل، ويحظى بموافقة واشنطن ورضاها. إنها اللعبة الأميركية الحاذقة بإحداث التوازنات، وعدم السماح لأي طرف أن يحسم لمصلحته، وذلك لتتمكن واشنطن من إعادة ضبط الصراع والإمساك بخيوطه للوصول به إلى ما يناسب مصالحها في المنطقة، وربطه في مواقع التوتر الأخرى في سوريا، والعراق، واليمن، وايران، والعلاقات الروسية- التركية في القرم وأوكرانيا.

الحسابات الأميركية أكثر تعقيداً وضخامةً من الحسابات الإقليمية، لذلك نستطيع الجزم بأن نقطة الإمساك بخيوط الأزمة - والسير بها وفق خارطة طريق أميركية،  كما يحصل الآن في ليبيا بعد ما حصل في سوريا - لا ترتبط فقط بالاستراتيجيات الإقليمية، بقدر ما هي مرتبطة بالاستراتيجيات الكونية الأميركية الشاملة التي تديرها المؤسّسة العميقة بكل أقسامها وتلويناتها.

ولا ندري ما إذا كانت الإدارة الأميركية جادّة بوقف إطلاق النار في ليبيا، أم أنها تستدرج مصر بعد تركيا لحرب استنزاف تغرقهما في وحول الصحراء الليبية.