Advertise here

بين السياسية والأمن وضيق العيش.. أين هيبة الدولة؟

19 حزيران 2020 08:47:00 - آخر تحديث: 10 أيلول 2020 11:38:16

يعاني الاستقرار في لبنان في أحد أبرز جوانبه من تخبط بيّنٍ حول إشكالية العلاقة الملتبسة والحلقات المفقودة أولاً بين السلطة السياسية من جهة، والأجهزة الامنية من جهة أخرى، ومن ثم بين الأجهزة الأمنية والعسكرية ذاتها، بالإضافة إلى ضبابية العلاقة بين السلطة السياسية والأجهزة مع السلطة القضائية. كل ذلك ناتج عن غياب السلطة المركزية المستعاض عنها بالعلاقة التسووية القائمة على حكم أركان الطوائف، وبالتالي فإنّ الدولة السيّدة هي الغائب أو المغيّب الأبرز على وقع تقاذف المسؤوليات أو أقله التهرّب من تحملها كما يجب. صحيح ان الدستور اللبناني ينص على فصل السلطات ولكنه يؤكد بشدة على ضرورة تعاونها وحسن التنسيق بينها في سبيل إعلاء الشأن الوطني. فالأحداث الأخيرة التي شهدتها البلاد أكدت الصورة النمطية والإنطباع السائد بأنّ الود مفقود وأحياناً معدوم الوجود.

خلال أحداث طرابلس الأخيرة، إتصل زعيم سياسي يستنجد بقيادة الجيش لتجمهر المتظاهرين أمام منزله ومحاولة تكسير كاميرات المراقبة لديه. أخذ وعداً بتأمين الحماية وانتهت المكالمة. لكن مشوار الزعيم لم ينته هنا فقد أصدر بياناً يقول فيه إنه اتصل بالجيش طالباً حماية المتظاهرين. هي عيّنة من الانفصام السياسي في التعاطي مع الجيش، يلجأ إليه في السر، وفي العلن يملي عليه التعليمات ويحثه على القيام بدوره.

بعد إجتماعه الأخير، قرر المجلس الأعلى للدفاع "تكثيف التنسيق والتعاون بين الأجهزة الأمنية وتبادل المعلومات في ما بينها لتفادي أي اعمال تخريبية تحت حجة مطالب معيشية محقة، والتشدد بعدم التساهل مع المخلين بالأمن والنظام". ديباجة تتكرر مع كل خلل أمني تشهده المناطق فيما القرار الحاسم لا يؤخذ رغم ان الاجتماع استثنائي. مثل هذه التوصيات لا تأتي على قدر الظروف الصعبة والتفلت الأمني الذي تمر به البلاد. والأصعب أن نسمع رئيس حكومة يناشد الأجهزة المعنية والقضاء "توقيف كل شخص شارك بهذه الجريمة، سواء في بيروت أو طرابلس أو أي منطقة" شأنه شأن عامة الناس، فيما هو يشكل سلطة قائمة بذاتها لها ان تصدر الاوامر وتحاسب على التقصير. خلال الاحداث التي شهدها الوسط التجاري كان سؤال جهات معنية عن أسباب غياب قوى الأمن الداخلي او تدخلها متأخرة، وإلقاء الملامة على الجيش لعدم توقيف مثيري أعمال الشغب الذين ظهرت صورهم على كاميرات النقل المباشر، علماً أن السلطة السياسية أعلنت أنها أعطت الجيش وقوى الامن أوامر حازمة بالتصدي للمخلين بالأمن، فهل ثمة قرار سياسي بتوقيفهم لأي جهة انتموا سواء في الشمال او بيروت؟ فحين يوضع الامن في دهاليز السياسة تسود الفوضى وتسقط هيبة الدولة، وعندما يتحدث المسؤول عن ضرورة وضع حد لأعمال الشغب والاعتداء على املاك الناس، يصبح لسان حاله كلسان حال بقية المواطنين، يعني أن هناك خللاً كبيراً في الادوار والممارسات.

تُطالب الاجهزة الامنية بحفظ الأمن ولا يؤمنون لها الغطاء السياسي لذلك. والسؤال المطروح: هل تقوم كافة الأجهزة الامنية بالدور المنوط بها أم انها تتجنب هي الاخرى التصادم مع الناس، لأسباب لم تعد خافية تاركةً للجيش التواجد في الصفوف الأمامية في مواجهة الناس؟ السؤال الآخر هو عن دور القضاء: فهل يمكن للأجهزة الأمنية ان تتحرك من دون مسوغ قانوني او تطلب ملاحقة او توقيفاً؟ غالباً ما يبدي الجيش استعداده ليكون صارماً في التصدي للاخلال بالامن، لكن القضاء كما السلطة السياسية لا يكونان جازمين في ممارسة صلاحياتهما بما لا يساعد في توقيف المخلين بالامن.

والمسألة الاخطر أن يصار الى اطلاق سراح الموقوفين قبل محاكمتهم بسبب اكتظاظ السجون، ما يجعل غالبية القوى الامنية تشكو وتتجنب توقيف الأشخاص او تطلق سراحهم وتبقيهم قيد الملاحقة. التفلت الأمني ليس معزولاً عن تصفية الحسابات السياسية مرة، وصراع الاجهزة الامنية مرات عدة. هناك أجهزة أمنية تنشط حيث يحلو لها فتعرف كل شاردة وواردة عن الناس وخصوصياتهم، فيما تغض الطرف عن امور متصلة بالأمن في البلد او تدّعي جهلها بما يحصل.

لا دلائل على عدم تكرار الشغب الاخير في وسط العاصمة او في طرابلس، فغياب هيبة الدولة المترافق مع ضيق العيش يمكن ان يفلت زمام الامور، وطالما ان مثير الشغب لم يجد من يردعه فسيعيد تكرار فعلته وسيوافيه الى ذلك الكثيرون. كل ما حصل موثق بالصور فكيف لا يتم توقيف الجناة لأي طائفة انتموا ولماذا لا تعلن قوى الامن التي تتولى التحقيق في هوية هؤلاء ومحركهم، طالما باتت معلومة الجهة التي ينتمون اليها. ليس الأمن معزولاً عن السياسية وفي الحالة اللبنانية ثمة تلازم وانعكاس للسياسة على الأمن إذ كلما تأزم الواقع السياسي ارتفعت المخاطر الأمنية في بلد مفتوح على كل أنواع الأجهزة والمخابرات.