ثمة عدد من الدروس يمكن استخلاصها من حالة الانسداد التي تواجه العلاقات بين الدول الكبرى، من أبرزها تراجع مستوى التعاون إلى الحدود الدنيا
لم يسبق أن مرّ العالم بمثل هذه الوضعية التي يعيشها اليوم، فهي مرحلة من دون حروب عسكرية، ولكنها تحتوي على خصائص غريبة قد تكون نتائجها أخطر من نتائج الحروب. والهياج الدبلوماسي والشعبي الراهن لا يمكن تشبيهه بأي مرحلة أُخرى، ذلك أن المصارعة مع الفيروس العضال «كورونا» فرضت أجندتها المخيفة على الجميع، وارتبكت مع هذه المصارعة كل منظومات الحكم في أغلبية الدول، وعلى وجه التحديد في الدول الكبرى، أو العظمى، خصوصاً لأن الانتخابات الرئاسية الأمريكية ستجري في خريف هذا العام، ولهذه الانتخابات حجم تأثير كبير في السياسة الدولية، مهما كانت نتيجتها، وإذا حصل التجديد للرئيس دونالد ترامب، سيكون الأمر مهماً جداً، لأن المقاربات الاستراتيجية التي اعتمدها ترامب لا تُشبه أي مقاربة لأي رئيس آخر.
ومن هذه المقاربات ذات التأثير الواسع؛ أن الرئيس ترامب أعلن الحرب المالية والدبلوماسية على منظمة الصحة العالمية، كما أعرب عن نيته الانسحاب من عدد من الاتفاقيات الدولية الأخرى، وقال إنه سيعمل على سحب ما يقارب 10 الآف من الجنود الأمريكيين المتمركزين في ألمانيا، مع أسلحتهم، ما قد يقلب المعادلات في أوروبا. والرئيس ترامب كان علَّق مشاركة بلاده في عدد من الاتفاقيات، منها على سبيل المثال: إتفاقية «السموات المفتوحة»، وإتفاقية الحد من انتشار الصواريخ النووية متوسطة المدى، واتفاقية الشراكة التجارية مع المحيط الهادي، واتفاقية باريس للمناخ، واتفاقية الأمم المتحدة للثقافة والعلوم «اليونيسكو»، ومن اتفاقية باريس للمناخ، ومن اتفاقية الدول الست الكبرى مع إيران حول ملفها النووي.
وروسيا كدولة كبرى، تراقب ما يجري، ولديها حيرة في كيفية التعامل مع التطورات في أوروبا، لأن الانسحاب الأمريكي من ألمانيا شيء، والانسحاب من بولونيا، وتشيكيا، وأوكرانيا، شيء آخر، لكون هذه الدول تقع على مقربة من حدودها أكثر من ألمانيا، وعلى اعتبار أن العلاقات الروسية - الألمانية اليوم أفضل من أي يوم مضى، خصوصاً في تنسيق سياسة البلدين في تجارة الغاز الطبيعي، وحول ملف الأحداث الساخنة في ليبيا، حيث طالب الرئيس بوتين، والمستشارة ميركل، بوقف فوري لإطلاق النار هناك، لا سيما بعد التدخل العسكري التركي المباشر، وما أدى إليه من توتر كبير.
وعلى الضفة الأخرى، فقد جاء التوتر بين الولايات المتحدة، والصين على خلفية جائحة كورونا، وما زالت الشكوك الأمريكية في الدور الصيني قائمة، وهذه الشكوك تتراوح بين اتهامها بالتواطؤ في تسريب الفيروس، أو التأخّر في تنبيه العالم بتاريخ ظهوره في الحد الأدنى، ويأتي غضب الرئيس ترامب من منظمة الصحة العالمية على هذه الخلفية بالذات، على اعتبار أن الولايات المتحدة من أكثر الدول تضرراً من «كورونا»، بحيث تجاوز عدد المصابين بالمرض مليوني مواطن.
الموقف الروسي مُربك بين كل هذه المستجدات، فموسكو تحاول تجنُّب المواضيع الخلافية مع واشنطن في هذا الوقت بالذات، وكانت مهتمة بانتهاء الاعتراضات الشعبية الواسعة في الولايات المتحدة على خلفية مقتل الموطن الأسود جورج فلويد، مطلع يونيو/ حزيران، لكنها في الوقت ذاته؛ لا تستطيع تجاهل بعض المُعطيات المستجدة، ومنها اعتراض المقاتلات الأمريكية لطائرات استطلاع روسية فوق المياه الدولية بالقرب من مقاطعة ألاسكا الأمريكية، في أقصى شمالي القارة، وروسيا اعتذرت عن المشاركة في القمة الإلكترونية للدول الصناعية السبع، وليس باستطاعتها اتخاذ موقف الحياد في الصراع التجاري والدبلوماسي القائم بين حليفتها الصين، والولايات المتحدة.
ومن الواضح أن اضطرابات دولية أخرى تحوم حول العديد من الملفات الساخنة، منها ملفات فنزويلا، وكوريا الشمالية، وايران، ومنها ايضاً صراعات الشرق الأوسط التي تتفاقم على شاكلة واسعة في سوريا، وفي لبنان، وفي فلسطين، حيث تخطط «إسرائيل» لعدوان جديد يطال اراضي عربية جديدة في مدينة الخليل، وفي الضفة الغربية، وهذا الحدث العدواني بالذات، لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام، لأن الجانب الفلسطيني سيكون له موقف متشدِّد، وهو مدعوم بقرار عربي شامل، بينما تحاول سلطات الاحتلال استغلال قرب الانتخابات الأمريكية لابتزاز واشنطن، وتمرير صفقتها.
ثمة عدد من الدروس يمكن استخلاصها من حالة الانسداد التي تواجه العلاقات بين الدول الكبرى، من أبرزها تراجع مستوى التعاون الى الحدود الدنيا، بعد أن كشفت عمليات المواجهة لجائحة كورونا الفجوة الواسعة في مسار التعاون بين الدول الصديقة، من جهة، وبين المستوى الهابط لحالة أداء بعض المنظمات الدولية المتخصصة، من جهة ثانية، بما في ذلك تراجع مستوى تأثير مجلس الأمن الدولي.