وصلنا إلى الهاوية، نحن على شفيرها. في قعرها. الأمل موجودٌ، مفقود. الخوف من المستقبل هو سيّد الموقف. الجوع ينهش الأجساد والنفوس، وهو بات واقعاً ينذر بوقوع زلزالٍ قد يحرق الأخضر واليابس، والثورة على النظام مستمرة، تخفت تارة، وتشتعل تارة أخرى، وهي باقية كالجمر تحت الرماد.
أمام كل هذه الكوارث، ما هو المسار الموضوعي الذي يمكن سلوكه للوصول إلى الحد الأدنى من الهدوء؟
اليوم قبل الغد، على جميع الأفرقاء السياسيين الفاعلين، والمتّهمين جميعهم بالفساد، على الأقل من قِبل خصومهم السياسيين، والواقع المالي للدولة أثبت أن كل الذين تحملوا مسؤوليات سياسية شاركوا في تفاقم الفساد والهدر، إن لم يكن بشكلٍ مباشر فقد كان بشكلٍ غير مباشر، وذلك من خلال التغاضي وعدم المحاسبة.
اليوم لم يعد ذلك مهماً، القتيل على الأرض، ووجب دفنه، والتفكير بالصلح لكي لا تستمر جريمة الثأر والثأر المضاد وتستمر الكارثة.
عملياً، لن يتمكن أحدٌ من إلغاء الآخر، شريكه في الوطن سواءً أراد ذلك أم لم يرد، ولن يتمكّن حزب الله من فرض شروطه على بقية مكوّنات الوطن بقوة السلاح. نعم، لديه أطناناً من الحديد المتفجر، لكنه لا يملك وجدانَ، وضميرَ، وبيوتَ، وإرادةَ كل اللبنانيين. وبالتالي مهما طال الزمن لن يتحوّل لبنان إلى دولة يعتبرها حزب الله ضرورةً تاريخية وجغرافية على حدود اسرائيل، الدولة العنصرية التي تتفق الغالبية القصوى من اللبنانيين على معاداتها.
كذلك لن يتمكن أحدٌ من إلغاء الثورة وتداعياتها، ونضالات، وتضحيات، شبابها وشاباتها الحالمين ببناء وطنٍ يحتضنهم بعيداً عن تشوّهات الفكر السياسي القمعي الاستعلائي، غير المنصف وغير العادل، والمتخلف، الذي حكم لبنان في العقود الماضية. هذه الثورة باتت جزءاً لا يتجزأ من مكوّنات السياسة اللبنانية، وهي تمثل طرفاً فاعلاً وله حضوره على الأرض، والأهم في وجدان غالبية الشعب اللبناني، حتى بين الذين يُصنّفون في خانة أعدائها. الثورة باتت حقيقة ساطعة كالشمس لا يمكن حجبها، وكل طرفٍ سياسي لبناني تقليدي يحاول، أو يظن، أنه يمكن التفكير في حلولٍ من دون احتساب مطالب الثورة ضمنها هو واهمٌ، وقليل الإدراك والفهم.
في المقابل لن يتمكن أي طرفٍ من إلغاء الزعامات السياسية التقليدية، مهما كانت آراؤه طليعية وثورية وتقدمية. والكلام هنا موجّهٌ إلى الثوار وإلى أنصار التغيير الحقيقيين. الثورة ليست أحلاماً فقط، بل هي سياسةٌ أيضاً، والسياسة تتعاطى مع الأرض، والواقع، ببراغماتية مطلوبة اليوم بقوة، لكي نصل إلى برّ أمانٍ يمثّل الحد الأدنى من الاستقرار والأمن والهدوء، بعد أن التهمت نار السياسة الإقليمية والدولية كل محاولات بناء دولة عصرية عادلة وديموقراطية بعد اجتياح فيروس كورونا العالم، وما سبّبه من انهيارات اقتصادية لا بد من أخذها بعين الاعتبار عند رسم استراتيجيات المستقبل على جميع الأصعدة.
اليوم، وعلى الرغم من كل التناقضات التي تربك أي احتمالات للتسوية، وبعد أن بلغ التصعيد والاستفزاز المتبادل بين الأفرقاء السياسيين الحد الأقصى، لا حلّ إلّا بالجلوس إلى طاولة حوار وطني حقيقي يكون لممثلي الثورة مقعداً أساسياً فيها. ولا بدّ أن يتعاطى الأفرقاء السياسيين مع طروحات واقتراحات الحلول بموضوعية وتواضع، ومن دون استقواءٍ بسلاحٍ أو مناصب، ومواقع وطوائف، وحتى تمثيلٍ انتخابي بات مشكوكاً في شرعيته من قِبل غالبية الشعب اللبناني.
*هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".